القول في تأويل قوله تعالى : ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ( 38 ) )
يقول - تعالى ذكره - للمؤمنين : ( ها أنتم ) أيها الناس ( هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ) يقول : تدعون إلى النفقة في جهاد أعداء الله ونصرة دينه ( فمنكم من يبخل ) بالنفقة فيه ، وأدخلت " ها" في موضعين ؛ لأن العرب إذا أرادت التقريب جعلت المكنى بين " ها" وبين " ذا" ، فقالت : ها أنت ذا قائما ؛ لأن التقريب جواب الكلام ، فربما أعادت " ها" مع " ذا" ، وربما اجتزأت بالأولى ، وقد حذفت الثانية ، ولا يقدمون أنتم قبل " ها" ، لأن ها [ ص: 192 ] جواب فلا تقرب بها بعد الكلمة .
وقال بعض نحويي البصرة : جعل التنبيه في موضعين للتوكيد .
وقوله ( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه ) يقول - تعالى ذكره - : ومن يبخل بالنفقة في سبيل الله ، فإنما يبخل عن بخل نفسه ؛ لأن نفسه لو كانت جوادا لم تبخل بالنفقة في سبيل الله ، ولكن كانت تجود بها ( والله الغني وأنتم الفقراء ) يقول - تعالى ذكره - : ولا حاجة لله أيها الناس إلى أموالكم ولا نفقاتكم ؛ لأنه الغني عن خلقه ، والخلق الفقراء إليه ، وأنتم من خلقه ، فأنتم الفقراء إليه ، وإنما حضكم على النفقة في سبيله ، ليكسبكم بذلك الجزيل من ثوابه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء ) قال : ليس بالله - تعالى ذكره - إليكم حاجة وأنتم أحوج إليه .
وقوله - تعالى ذكره - : ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) يقول - تعالى ذكره - : وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - فترتدوا راجعين عنه ( يستبدل قوما غيركم ) يقول : يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدقون به ، ويعملون بشرائعه ( ثم لا يكونوا أمثالكم ) يقول : ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله ، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم ، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة [ ص: 193 ] ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) يقول : إن توليتم عن كتابي وطاعتي أستبدل قوما غيركم ، قادر والله ربنا على ذلك على أن يهلكهم ، ويأتي من بعدهم من هو خير منهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) قال : إن تولوا عن طاعة الله .
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ) .
وذكر أنه عنى بقوله ( يستبدل قوما غيركم ) : العجم من عجم فارس .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بزيع البغدادي أبو سعيد قال : ثنا إسحاق بن منصور ، عن ، عن مسلم بن خالد العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن قال : " أبي هريرة وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) كان سلمان إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا رسول الله من هؤلاء القوم الذين إن تولينا استبدلوا بنا ؟ قال : فضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - على منكب سلمان ، فقال : من هذا وقومه ، والذي نفسي بيده لو أن الدين تعلق بالثريا لنالته رجال من أهل فارس " . لما نزلت (
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : أخبرني ، عن مسلم بن خالد العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن " أبي هريرة وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ، ثم لا يكونوا أمثالنا ، فضرب على فخذ سلمان قال : هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس " . [ ص: 194 ] أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية (
حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال : ثنا عبد الله بن الوليد العدني قال : ثنا ، عن مسلم بن خالد العلاء ، عن أبيه ، عن قال : " أبي هريرة إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحك ركبته ركبته ( وسلمان الفارسي وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) قالوا : يا رسول الله ومن الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ قال : فضرب فخذ سلمان ثم قال : هذا وقومه " . نزلت هذه الآية
وقال : مجاهد في ذلك ما حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( يستبدل قوما غيركم ) من شاء .
وقال آخرون : هم أهل اليمن .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عوف الطائي قال : ثنا أبو المغيرة قال : ثنا قال : ثنا صفوان بن عمرو راشد بن سعد وعبد الرحمن بن جبير وشريح بن عبيد في قوله ( وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم ) قال : أهل اليمن .
آخر تفسير سورة محمد - صلى الله عليه وسلم - .