القول في تأويل قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ( 6 ) )
يقول - تعالى ذكره - : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) عن قوم ( فتبينوا ) .
واختلفت القراء في قراءة قوله ( فتبينوا ) فقرأ ذلك عامة قراء أهل المدينة ( فتثبتوا ) بالثاء ، وذكر أنها في مصحف عبد الله منقوطة بالثاء . وقرأ ذلك بعض القراء فتبينوا بالباء ، بمعنى : أمهلوا حتى تعرفوا صحته ، لا تعجلوا بقبوله ، وكذلك معنى ( فتثبتوا ) .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وذكر أن هذه الآية نزلت في . الوليد بن عقبة بن أبي معيط
ذكر السبب الذي من أجله قيل ذلك :
حدثنا أبو كريب قال : ثنا ، عن جعفر بن عون موسى بن عبيدة ، عن ثابت مولى أم سلمة ، عن أم سلمة ، قالت : " بني المصطلق بعد الوقعة ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن بني المصطلق قد منعوا صدقاتهم ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون قال : فبلغ القوم رجوعه قال : فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصفوا [ ص: 287 ] له حين صلى الظهر فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، بعثت إلينا رجلا مصدقا ، فسررنا بذلك ، وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضبا من الله ومن رسوله ، فلم يزالوا يكلمونه حتى جاء بلال ، وأذن بصلاة العصر; قال : ونزلت ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا في صدقات
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ) . . . الآية ، قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث ، ثم أحد الوليد بن عقبة بن أبي معيط بني عمرو بن أمية ، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق ، ليأخذ منهم الصدقات ، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا ، وخرجوا ليتلقوا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضبا شديدا ، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم ، إذ أتاه الوفد ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق ، وإنا خشينا أن يكون إنما رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا ، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله ، فأنزل الله عذرهم في الكتاب ، فقال ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . قوله (
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، مجاهد " في قوله ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) قال : بعثه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، بني المصطلق ، ليصدقهم ، فتلقوه بالهدية فرجع إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن بني المصطلق جمعت [ ص: 288 ] لتقاتلك" . عن
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ) . . . حتى بلغ ( بجهالة ) وهو ابن أبي معيط الوليد بن عقبة ، بعثه نبي الله - صلى الله عليه وسلم - مصدقا إلى بني المصطلق ، فلما أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم ، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث نبي الله - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه; فلما جاءوا أخبروا خالدا أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فلما أصبحوا أتاهم خالد ، فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره الخبر ، فأنزل الله - عز وجل - ما تسمعون ، فكان نبي الله يقول : التبين من الله ، والعجلة من الشيطان" .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ) فذكر نحوه .
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار عبد الرحمن قال : ثنا سفيان ، عن هلال الوزان ، عن في قوله ( ابن أبي ليلى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) قال : نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن حميد ، عن هلال الأنصاري ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ( إن جاءكم فاسق بنبأ ) قال : نزلت في الوليد بن عقبة حين أرسل إلى بني المصطلق .
قال : ثنا سلمة قال : ثنا محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن رومان ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى بني المصطلق بعد إسلامهم ، الوليد بن أبي معيط ، فلما سمعوا به ركبوا إليه ، فلما سمع بهم خافهم فرجع إلى رسول الله صلى الله ، فأخبره أن القوم قد هموا بقتله ، ومنعوا ما قبلهم من صدقاتهم ، فأكثر المسلمون في ذكر غزوهم حتى هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يغزوهم ، فبينما هم في ذلك قدم وفدهم على رسول الله - صلى الله عليه [ ص: 289 ] وسلم - فقالوا : يا رسول الله سمعنا برسولك حين بعثته إلينا ، فخرجنا إليه لنكرمه ، ولنؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة ، فاستمر راجعا ، فبلغنا أنه يزعم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا خرجنا إليه لنقاتله ، ووالله ما خرجنا لذلك . فأنزل الله في الوليد بن عقبة وفيهم : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ ) . . . الآية .
قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلا من أصحابه إلى قوم يصدقهم ، فأتاهم الرجل ، وكان بينه وبينهم إحنة في الجاهلية ، فلما أتاهم رحبوا به ، وأقروا بالزكاة ، وأعطوا ما عليهم من الحق ، فرجع الرجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، منع بنو فلان الصدقة ، ورجعوا عن الإسلام ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبعث إليهم فأتوه فقال : أمنعتم الزكاة ، وطردتم رسولي ؟ " فقالوا : والله ما فعلنا ، وإنا لنعلم أنك رسول الله ، ولا بد لنا ، ولا منعنا حق الله في أموالنا ، فلم يصدقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله هذه الآية ، فعذرهم .
وقوله ( أن تصيبوا قوما بجهالة ) يقول - تعالى ذكره - : فتبينوا لئلا تصيبوا قوما برآء مما قذفوا به بجناية بجهالة منكم ( فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) يقول : فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها .