القول في تأويل قوله تعالى : ( يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون ( 46 ) وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون ( 47 ) )
يعني جل ثناؤه بقوله ( يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ) يوم القيامة ، حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون ، ثم بين عن ذلك اليوم أي يوم هو ، فقال : يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ، يعني : مكرهم أنه لا يدفع عنهم من عذاب الله شيئا ، فاليوم الثاني ترجمة عن الأول .
وقوله ( ولا هم ينصرون ) يقول : ولا هم ينصرهم ناصر ، فيستقيد لهم ممن عذبهم وعاقبهم .
وقوله ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) اختلف أهل التأويل في العذاب الذي توعد الله به هؤلاء الظلمة من دون يوم الصعقة ، فقال بعضهم : هو عذاب القبر . [ ص: 487 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال : أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ( عذابا دون ذلك ) قال : عذاب القبر .
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، وقوله ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) يقول : عذاب القبر قبل عذاب يوم القيامة .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن ابن عباس كان يقول : إنكم لتجدون عذاب القبر في كتاب الله ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن ابن عباس كان يقول : إن عذاب القبر في القرآن . ثم تلا ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) .
وقال آخرون : عنى بذلك الجوع .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( عذابا دون ذلك ) قال : الجوع .
وقال آخرون : عنى بذلك : المصائب التي تصيبهم في الدنيا من ذهاب الأموال والأولاد .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) قال : دون الآخرة في هذه الدنيا ما يعذبهم [ ص: 488 ] به من ذهاب الأموال والأولاد ، قال : فهي للمؤمنين أجر وثواب عند الله ، عدا مصائبهم ومصائب هؤلاء ، عجلهم الله إياها في الدنيا ، وقرأ ( فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) . . . إلى آخر الآية .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إن الله - تعالى ذكره - أخبر أن للذين ظلموا أنفسهم بكفرهم به عذابا دون يومهم الذي فيه يصعقون ، وذلك يوم القيامة ، فعذاب القبر دون يوم القيامة ، لأنه في البرزخ ، والجوع الذي أصاب كفار قريش ، والمصائب التي تصيبهم في أنفسهم وأموالهم وأولادهم دون يوم القيامة ، ولم يخصص الله نوعا من ذلك أنه لهم دون يوم القيامة دون نوع بل عم فقال ( وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) فكل ذلك لهم عذاب ، وذلك لهم دون يوم القيامة ، فتأويل الكلام : وإن للذين كفروا بالله عذابا من الله دون يوم القيامة ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) بأنهم ذائقو ذلك العذاب .