القول في تأويل قوله تعالى ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ( 154 ) )
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره : يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوكم ، وترك معاصي ، وأداء سائر فرائضي عليكم ، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله : هو ميت ، فإن الميت من خلقي من سلبته حياته وأعدمته حواسه ، فلا يلتذ لذة ولا يدرك نعيما ، فإن من قتل منكم ومن سائر خلقي في سبيلي ، أحياء عندي ، في حياة ونعيم ، وعيش هني ، ورزق سني ، فرحين [ ص: 215 ] بما آتيتهم من فضلي ، وحبوتهم به من كرامتي ، كما : -
2317 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "بل أحياء " عند ربهم ، يرزقون من ثمر الجنة ، ويجدون ريحها ، وليسوا فيها .
2318 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
2319 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " ، كنا نحدث أن في طير بيض يأكلن من ثمار الجنة ، وأن مساكنهم سدرة المنتهى ، وأن أرواح الشهداء تعارف : من قتل في سبيل الله منهم صار حيا مرزوقا ، ومن غلب آتاه الله أجرا عظيما ، ومن مات رزقه الله رزقا حسنا . للمجاهد في سبيل الله ثلاث خصال من الخير
2320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " قال : أرواح الشهداء في صور طير بيض .
2321 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، في صور طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها ، يأكلون من حيث شاءوا .
2322 - حدثني المثنى قال : حدثنا محمد بن جعفر قال : حدثنا عثمان بن غياث . قال : سمعت عكرمة يقول في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون " قال : أرواح الشهداء في طير خضر في الجنة . [ ص: 216 ]
قال أبو جعفر : فإن قال لنا قائل : وما في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعم به غيره ؟ وقد علمت تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم ، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى الجنة يشمون منها روحها ، ويستعجلون الله قيام الساعة ، ليصيروا إلى مساكنهم منها ، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها ، وعن الكافرين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبواب إلى النار ينظرون إليها ، ويصيبهم من نتنها ومكروهها ، ويسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يقمعهم فيها ، ويسألون الله فيها تأخير قيام الساعة ، حذارا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها ، مع أشباه ذلك من الأخبار . وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما الذي خص به القتيل في سبيل الله ، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة ، وسائر الكفار والمؤمنين غيره أحياء في البرزخ ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك ، وأما المؤمنون فمنعمون بالروح والريحان ونسيم الجنان ؟
قيل : إن الذي خص الله به الشهداء في ذلك ، وأفاد المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره ، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في برزخهم قبل بعثهم ، ومنعمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر ، من لذيذ مطاعمها الذي لم يطعمها الله أحدا غيرهم في برزخه قبل بعثه . فذلك هو الفضيلة التي فضلهم بها وخصهم بها من غيرهم ، والفائدة التي أفاد المؤمنين بالخبر عنهم ، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ) [ سورة آل عمران : 169 - 170 ] ، وبمثل الذي قلنا جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
2323 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، وعبدة [ ص: 217 ] بن سليمان ، عن محمد بن إسحاق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . "الشهداء على بارق ، نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء - وقال عبدة : في روضة خضراء - يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا
2324 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي ، عن ابن بشار السلمي - أو أبي بشار ، شك أبو جعفر - قال : أرواح الشهداء في [ ص: 218 ] قباب بيض من قباب الجنة ، في كل قبة زوجتان ، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثور وحوت ، فأما الثور ، ففيه طعم كل ثمرة في الجنة ، وأما الحوت ففيه طعم كل شراب في الجنة .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فإن الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكره أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصهم بها في البرزخ غير موجود في قوله : " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، وإنما فيه الخبر عن حالهم ، أموات هم أم أحياء .
قيل : إن المقصود بذكر الخبر عن حياتهم ، إنما هو الخبر عما هم فيه من النعمة ، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده عما خص به الشهداء في قوله : ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) [ سورة آل عمران : 169 ] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك ، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله : "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء " ، نهي خلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى ترك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم .
وأما قوله : "ولكن لا تشعرون" ، فإنه يعني به : ولكنكم لا ترونهم فتعلموا أنهم أحياء ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به .
وإنما رفع قوله : "أموات " بإضمار مكني عن أسماء "من يقتل في سبيل الله " ، ومعنى ذلك : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات . ولا يجوز النصب في [ ص: 219 ] "الأموات " ، لأن القول لا يعمل فيهم ، وكذلك قوله : "بل أحياء " ، رفع ، بمعنى : هم أحياء .