القول في سنفرغ لكم أيها الثقلان ( 31 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 32 ) يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ( 33 ) فبأي آلاء ربكما تكذبان ( 34 ) ) [ ص: 41 ] تأويل قوله تعالى : (
اختلفت القراء في قراءة قوله : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض المكيين ( سنفرغ لكم ) بالنون . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة " سيفرغ لكم " بالياء ، وفتحها ردا على قوله : ( يسأله من في السماوات والأرض ) ولم يقل : يسألنا من في السماوات ، فأتبعوا الخبر الخبر .
والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
وأما تأويله : فإنه وعيد من الله لعباده وتهدد ، كقول القائل الذي يتهدد غيره ويتوعده ، ولا شغل له يشغله عن عقابه ، لأتفرغن لك ، وسأتفرغ لك . بمعنى : سأجد في أمرك وأعاقبك . وقد يقول القائل للذي لا شغل له : قد فرغت لي ، وقد فرغت لشتمي : أي أخذت فيه ، وأقبلت عليه ، وكذلك قوله - جل ثناؤه - : ( سنفرغ لكم ) : سنحاسبكم ، ونأخذ في أمركم - أيها الإنس والجن - فنعاقب أهل المعاصي ، ونثيب أهل الطاعة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) قال : وعيد من الله للعباد ، وليس بالله شغل ، وهو فارغ .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة أنه تلا ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) قال : دنا من الله فراغ لخلقه .
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جويبر ، عن [ ص: 42 ] الضحاك ( سنفرغ لكم أيها الثقلان ) قال : وعيد ، وقد يحتمل أن يوجه معنى ذلك إلى : سنفرغ لكم من وعدناكم ما وعدناكم من الثواب والعقاب .
وقوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) : فبأي نعم ربكما معشر الثقلين التي أنعمها عليكم - من ثوابه أهل طاعته ، وعقابه أهل معصيته - تكذبان ؟ .
وقوله : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ) اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إن استطعتم أن تنفذوا ) فقال بعضهم : معنى ذلك : إن استطعتم أن تجوزوا أطراف السماوات والأرض ، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم فجوزوا ذلك ، فإنكم لا تجوزونه إلا بسلطان من ربكم . قالوا : وإنما هذا قول يقال لهم يوم القيامة . قالوا : ومعنى الكلام : سنفرغ لكم أيها الثقلان ، فيقال لهم ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال : ثنا أبو أسامة ، عن الأجلح قال : سمعت الضحاك بن مزاحم قال : " إذا كان يوم القيامة أمر الله السماء الدنيا فتشققت بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، فأحاطوا بالأرض ومن عليها بالثانية ، ثم بالثالثة ، ثم بالرابعة ، ثم بالخامسة ، ثم بالسادسة ، ثم بالسابعة ، فصفوا صفا دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض ندوا ، فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا سبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله ( إني أخاف عليكم يوم التناد يوم تولون مدبرين ) وذلك قوله : ( وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم ) وقوله : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) وذلك قوله : ( وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها ) . [ ص: 43 ]
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ، فانفذوا هاربين من الموت ، فإن الموت مدرككم ، ولا ينفعكم هربكم منه .
ذكر من قال ذلك :
حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول ( يا معشر الجن والإنس ) . الآية . يعني بذلك أنه لا يجيرهم أحد من الموت ، وأنهم ميتون لا يستطيعون فرارا منه ، ولا محيصا ، لو نفذوا من أقطار السماوات والأرض كانوا في سلطان الله ، ولأخذهم الله بالموت .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : ( يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) يقول : إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموه ، لن تعلموه إلا بسلطان ، يعني البينة من الله - جل ثناؤه - .
وقال آخرون : معنى قوله : ( لا تنفذون ) : لا تخرجون من سلطاني .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله : ( لا تنفذون إلا بسلطان ) : يقول : لا تخرجون من سلطاني .
وأما الأقطار فهي جمع قطر ، وهي : الأطراف .
كما حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ( إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض ) [ ص: 44 ] قال : من أطرافها .
وقوله - جل ثناؤه - ( ولو دخلت عليهم من أقطارها ) يقول : من أطرافها .
وأما قوله : ( إلا بسلطان ) فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه ، فقال بعضهم معناه : إلا ببينة وقد ذكرنا ذلك قبل .
وقال آخرون : معناه : إلا بحجة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل ، عن عكرمة ( لا تنفذون إلا بسلطان ) قال : كل شيء في القرآن سلطان : فهو حجة .
حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( بسلطان ) قال : بحجة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إلا بملك وليس لكم ملك .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا قال : ثنا محمد بن بشار محمد بن مروان قال : ثنا أبو العوام ، عن قتادة ( فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان ) قال : لا تنفذون إلا بملك ، وليس لكم ملك .
حدثنا ابن عبد الأعلى قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( لا تنفذون إلا بسلطان ) قال : إلا بسلطان من الله ، إلا بملكة منه .
حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لا تنفذون إلا بسلطان ) يقول : إلا بملكة من الله .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : إلا بحجة وبينة ؛ لأن ذلك هو معنى السلطان في كلام العرب ، وقد يدخل الملك في [ ص: 45 ] ذلك ؛ لأن الملك حجة .
وقوله : ( فبأي آلاء ربكما تكذبان ) يقول - تعالى ذكره - : فبأي نعم ربكما تكذبان معشر الثقلين - التي أنعمت عليكم من التسوية بين جميعكم ، لا يقدرون على خلاف أمر أراده بكم - تكذبان .