القول في تأويل قوله تعالى : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليم حكيم وآتوهم ما أنفقوا ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ( 10 ) )
وقوله : ( وآتوهم ما أنفقوا ) يقول جل ثناؤه : وأعطوا المشركين الذين جاءكم نساؤهم مؤمنات إذا علمتموهن مؤمنات ، فلم ترجعوهن إليهم ما أنفقوا في نكاحهم إياهن من الصداق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) . . . إلى قوله : ( عليم حكيم ) قال : كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، فإذا علموا أن ذلك حق منهن لم يرجعوهن إلى الكفار ، وأعطي بعلها من الكفار الذين عقد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم صداقه الذي أصدقها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى; [ ص: 329 ] وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( وآتوهم ما أنفقوا ) وآتوا أزواجهن صدقاتهن .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ياأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ) حتى بلغ ( والله عليم حكيم ) هذا حكم حكمه الله عز وجل بين أهل الهدى وأهل الضلالة ، كن إذا فررن من المشركين الذين بينهم وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عهد إلى أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم فتزوجوهن بعثوا مهورهن إلى أزواجهن من المشركين الذين بينهم وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد ، وإذا فررن من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين الذين بينهم وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد بعثوا بمهورهن إلى أزواجهن من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري قال : نزلت عليه وهو بأسفل الحديبية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم صالحهم أنه من أتاه منهم رده إليهم; فلما جاءه النساء نزلت عليه هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، حكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين أن يردوا الصداق إلى أزواجهن فقال : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن ) كان نبي الله صلى الله عليه وسلم عاهد من المشركين ومن أهل الكتاب ، فعاهدهم وعاهدوه ، وكان في الشرط أن يردوا الأموال والنساء ، فكان نبي الله إذا فاته أحد من أزواج المؤمنين ، فلحق بالمعاهدة تاركا لدينه مختارا للشرك ، رد على زوجها ما أنفق عليها ، وإذا لحق بنبي الله صلى الله عليه وسلم أحد من أزواج المشركين امتحنها نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فسألها ما أخرجك من قومك ، فإن وجدها [ ص: 330 ] خرجت تريد الإسلام قبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد على زوجها ما أنفق عليها ، وإن وجدها فرت من زوجها إلى آخر بينها وبينه قرابة ، وهي متمسكة بالشرك ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زوجها من المشركين .
حدثني قال : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) . . . الآية كلها ، قال : لما هادن رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين "كان في الشرط الذي شرط : أن ترد إلينا من أتاك منا ، و [ لا ] نرد إليك من أتانا منكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "من أتانا منكم فنرده إليكم ، ومن أتاكم منا فاختار الكفر على الإيمان فلا حاجة لنا فيهم " ، وقال : فأبى الله ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم في النساء ، ولم يأبه للرجال ، فقال الله عز وجل : ( إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ) . . . إلى قوله : ( وآتوهم ما أنفقوا ) أزواجهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بكير بن الأشج ، قال كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين هدنة فيمن فر من النساء ، فإذا فرت المشركة أعطى المسلمون زوجها نفقته عليها وكان المسلمون يفعلون وكان إذا لم يعط هؤلاء ولا هؤلاء أخرج المسلمون للمسلم الذي ذهبت امرأته نفقتها .
وقوله : ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ) يقول تعالى ذكره : ولا حرج عليكم أيها المؤمنون أن تنكحوا هؤلاء المهاجرات اللاتي لحقن بكم من دار الحرب مفارقات لأزواجهن ، وإن كان لهن أزواج في دار الحرب إذا علمتموهن مؤمنات إذا أنتم أعطيتموهن أجورهن ، ويعني بالأجور : الصدقات . وكان قتادة يقول : كن إذا فررن من المشركين الذين بينهم وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عهد إلى أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم فتزوجوهن ، بعثوا بمهورهن إلى أزواجهن من المشركين الذين بينهم وبين [ ص: 331 ] أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد .
حدثنا بذلك بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، وكان الزهري يقول : إنما أمر الله برد صداقهن إليهم إذا حبسن عنهم وإن هم ردوا المسلمين على صداق من حبسوا عنهم من نسائهم .
حدثنا بذلك ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ولا جناح عليكم أن تنكحوهن ) ولها زوج ثم ، لأنه فرق بينهما الإسلام إذا استبرأتم أرحامهن .
وقوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) يقول جل ثناؤه للمؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تمسكوا أيها المؤمنون بحبال النساء الكوافر وأسبابهن ، والكوافر : جمع كافرة ، والعصم : جمع عصمة ، وهي ما اعتصم به من العقد والسبب ، وهذا نهي من الله للمؤمنين عن الإقدام على نكاح النساء المشركات من أهل الأوثان ، وأمر لهم بفراقهن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن المسور بن مخرمة " ومروان بن الحكم قريش ، فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ ( بعصم الكوافر ) فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له بالشرك ، فتزوج إحداهما والأخرى معاوية بن أبي سفيان صفوان بن أمية . أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه نسوة مؤمنات بعد أن كتب كتاب القضية بينه وبين
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن [ ص: 332 ] شهاب ، قال : " قريش من أجل العهد الذي كان بين كفار قريش وبين النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يرد إلى كفار قريش ما أنفقوا على نسائهم اللاتي يسلمن ويهاجرن ، وبعولتهن كفار للعهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبينهم ، ولو كانوا حربا ليست بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة وعقد لم يرد عليهم شيئا مما أنفقوا ، وحكم الله للمؤمنين على أهل المدة من الكفار بمثل ذلك ، قال الله : ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات ) حتى بلغ ( والله عليم حكيم ) فطلق المؤمنون حين أنزلت هذه الآية كل امرأة كافرة كانت تحت رجل منهم ، فطلق رضي الله عنه امرأته عمر بن الخطاب ابنة أبي أمية بن المغيرة من بني مخزوم فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وابنة جرول من خزاعة ، فتزوجها أبو جهم بن حذافة العدوي ، وجعل الله ذلك حكما حكم به بين المؤمنين والمشركين في هذه المدة التي كانت . بلغنا أن آية المحنة التي ماد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كفار
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : وقال الزهري : لما نزلت هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات ) . . . إلى قوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) كان ممن طلق رضي الله عنه امرأته قريبة عمر بن الخطاب ابنة أبي أمية بن المغيرة ، فتزوجها بعده وهما على شركهما معاوية بن أبي سفيان ، بمكة ، وأم كلثوم ابنة جرول الخزاعية أم عبد الله بن عمر فتزوجها أبو جهم بن حذافة بن غانم رجل من قومه ، وهما على شركهما ، وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو التيمي كانت عنده أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ، ففرق بينهما الإسلام حين نهى القرآن عن التمسك بعصم الكوافر ، وكان طلحة قد هاجر وهي بمكة على دين قومها ، ثم تزوجها في الإسلام بعد طلحة . وكان ممن فر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار ممن لم يك بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فحبسها وزوجها رجلا من المسلمين خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس أميمة بنت بشر الأنصارية ، ثم إحدى نساء بني أمية بن زيد من أوس الله ، كانت عند ثابت بن [ ص: 333 ] الدحداحة ، ففرت منه - وهو يومئذ كافر - إلى رسول الله ، فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سهل بن حنيف أحد بني عمرو بن عوف ، فولدت عبد الله بن سهل .
حدثني ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال الله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) قال الزهري : فطلق عمر امرأتين كانتا له بمكة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) قال : أصحاب محمد أمروا بطلاق نسائهم ، كوافر بمكة ، قعدن مع الكفار .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) مشركات العرب اللاتي يأبين الإسلام أمر أن يخلى سبيلهن .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) إذا كفرت المرأة فلا تمسكوها ، خلوها ، وقعت الفرقة بينها وبين زوجها حين كفرت .
واختلفت القراء في قراءة قوله : ( ولا تمسكوا ) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والكوفة والشأم ، ( ولا تمسكوا ) بتخفيف السين . وقرأ ذلك أبو عمرو ( ولا تمسكوا ) بتشديدها ، وذكر أنها قراءة الحسن ، واعتبر من قرأ ذلك بالتخفيف : وإمساك بمعروف .
والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان ، ولغتان مشهورتان ، محكي عن العرب : أمسكت به ومسكت ، وتمسكت به .
وقوله : ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) يقول تعالى ذكره لأزواج [ ص: 334 ] اللواتي لحقن من المؤمنين من دار الإسلام بالمشركين إلى مكة من كفار قريش : واسألوا أيها المؤمنون الذين ذهبت أزواجهم فلحقن بالمشركين ما أنفقتم على أزواجكم اللواتي لحقن بهم من الصداق من تزوجهن منهم ، وليسئلكم المشركون منهم الذين لحق بكم أزواجهم مؤمنات إذا تزوجن فيكم من تزوجها منكم ما أنفقوا عليهن من الصداق .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، قال : أقر المؤمنون بحكم الله ، وأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم ، وأبى المشركون أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله ( واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) قال : ما ذهب من أزواج أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكفار ، فليعطهم الكفار صدقاتهن ، وليمسكوهن ، وما ذهب من أزواج الكفار إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فمثل ذلك ، في صلح كان بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين قريش .
وقوله : ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ) يقول تعالى ذكره : هذا الحكم الذي حكمت بينكم من أمركم أيها المؤمنون بمسألة المشركين ، ما أنفقتم على أزواجكم اللاتي لحقن بهم وأمرهم بمسألتكم مثل ذلك في أزواجهن اللاتي لحقن بكم ، حكم الله بينكم فلا تعتدوه ، فإنه الحق الذي لا يسمع غيره ، فانتهى المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكر إلى أمر الله وحكمه ، وامتنع المشركون منه وطالبوا الوفاء بالشروط التي كانوا شارطوها بينهم [ ص: 335 ] في ذلك الصلح ، وبذلك جاءت الآثار والأخبار عن أهل السير وغيرهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : أما المؤمنون فأقروا بحكم الله ، وأما المشركون فأبوا أن يقروا ، فأنزل الله عز وجل ( وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار ) . . . الآية .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهري ، قال : قال الله : ( ذلكم حكم الله يحكم بينكم ) ، فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، ورد الرجال ، وسأل الذي أمره الله أن يسأل من صدقات النساء من حبسوا منهن ، وأن يردوا عليهم مثل الذي يردون عليهم إن هم فعلوا ، ولولا الذي حكم الله به من هذا الحكم رد رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، كما رد الرجال ، ولولا الهدنة والعهد الذي كان بينه وبين قريش يوم الحديبية أمسك النساء ولم يرد إليهم صداقا ، وكذلك يصنع بمن جاءه من المسلمات قبل العهد ، قوله : ( والله عليم حكيم ) يقول جل ثناؤه : والله ذو علم بما يصلح خلقه وغير ذلك من الأمور ، حكيم في تدبيره إياهم .