القول في تأويل قوله عز وجل ( وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ( 163 ) )
قال أبو جعفر : قد بينا فيما مضى معنى "الألوهية " ، وأنها اعتباد الخلق .
فمعنى قوله : "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " : والذي يستحق عليكم أيها الناس الطاعة له ، ويستوجب منكم العبادة ، معبود واحد ورب واحد ، فلا تعبدوا غيره ، ولا تشركوا معه سواه ، فإن من تشركونه معه في عبادتكم إياه ، هو خلق من خلق إلهكم مثلكم ، وإلهكم إله واحد ، لا مثل له ولا نظير .
واختلف في معنى وحدانيته تعالى ذكره ،
فقال بعضهم : معنى نفي الأشباه والأمثال عنه ، كما يقال : "فلان واحد الناس - وهو واحد قومه " ، يعني بذلك أنه ليس له في الناس مثل ، ولا له في قومه شبيه ولا نظير . فكذلك معنى قول : "الله واحد " ، يعني به : الله لا مثل له ولا نظير . معنى وحدانية الله ،
فزعموا أن الذي دلهم على صحة تأويلهم ذلك ، أن قول القائل : "واحد " يفهم لمعان أربعة . أحدها : أن يكون "واحدا " من جنس ، كالإنسان "الواحد " من الإنس . والآخر : أن يكون غير متفرق ، كالجزء الذي لا ينقسم . والثالث : [ ص: 266 ] أن يكون معنيا به : المثل والاتفاق ، كقول القائل : "هذان الشيئان واحد " ، يراد بذلك : أنهما متشابهان ، حتى صارا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد .
والرابع : أن يكون مرادا به نفي النظير عنه والشبيه .
قالوا : فلما كانت المعاني الثلاثة من معاني "الواحد " منتفية عنه ، صح المعنى الرابع الذي وصفناه .
وقال آخرون : معنى "وحدانيته " تعالى ذكره ، معنى انفراده من الأشياء ، وانفراد الأشياء منه . قالوا : وإنما كان منفردا وحده ، لأنه غير داخل في شيء ولا داخل فيه شيء . قالوا : ولا صحة لقول القائل : "واحد " ، من جميع الأشياء إلا ذلك . وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعة التي قالها الآخرون .
وأما قوله : "لا إله إلا هو " ، فإنه خبر منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيره ، ولا يستوجب على العباد العبادة سواه ، وأن كل ما سواه فهم خلقه ، والواجب على جميعهم طاعته والانقياد لأمره ، وترك عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة ، وهجر الأوثان والأصنام . لأن جميع ذلك خلقه ، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة ، ولا تنبغي الألوهة إلا له ، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه ، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك ؛ وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه ، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفع في عاجل ولا في آجل ، ولا في دنيا ولا في آخرة .
وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهل الشرك به على ضلالهم ، ودعاء منه لهم إلى الأوبة من كفرهم ، والإنابة من شركهم . [ ص: 267 ]
ثم عرفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها ، موضع استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبههم عليه من توحيده وحججه الواضحة القاطعة عذرهم ، فقال تعالى ذكره : أيها المشركون ، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر : من أن إلهكم إله واحد ، دون ما تدعون ألوهيته من الأنداد والأوثان ، فتدبروا حججي وفكروا فيها ، فإن من حججي خلق السماوات والأرض ، واختلاف الليل والنهار ، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها ، وما بثثت فيها من كل دابة ، والسحاب الذي سخرته بين السماء والأرض . فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به ، إذا اجتمع جميعه فتظاهر أو انفرد بعضه دون بعض ، يقدر على أن يخلق نظير شيء من خلقي الذي سميت لكم ، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذر ، وإلا فلا عذر لكم في اتخاذ إله سواي ، ولا إله لكم ولما تعبدون غيري . فليتدبر أولو الألباب إيجاز الله احتجاجه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده ، في هذه الآية وفي التي بعدها ، بأوجز كلام ، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على معرفة فضل حكمة الله وبيانه .
القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) قوله : (
قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . [ ص: 268 ]
فقال بعضهم : أنزلها عليه احتجاجا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان . وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " فتلا ذلك على أصحابه ، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان ، قال المشركون : وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك ؟ ونحن ننكر ذلك ، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة ؟ فأنزل الله عند ذلك : "إن في خلق السماوات والأرض " ، احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم .
ذكر من قال ذلك :
2398 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن عطاء ، قال : نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة : " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " ، فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، إلى قوله : "لآيات لقوم يعقلون " ، فبهذا تعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء ، وخالق كل شيء .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم ، من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [ آية ] ، فأنزل الله هذه الآية ، يعلمهم فيها أن لهم في خلق السماوات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك ، آية بينة على وحدانية الله ، وأنه لا شريك له في ملكه ، لمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح .
ذكر من قال ذلك :
2399 - حدثنا سفيان بن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبيه ، [ ص: 269 ] عن أبي الضحى قال : لما نزلت " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " ، قال المشركون : إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، الآية .
2400 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال حدثني سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت : " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " ، قال المشركون : إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية ، فأنزل الله تعالى ذكره : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، الآية .
2401 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، قال : حدثني سعيد بن مسروق ، عن أبي الضحى قال : لما نزلت هذه الآية ، جعل المشركون يعجبون ويقولون : تقول إلهكم إله واحد ، فلتأتنا بآية إن كنت من الصادقين! فأنزل الله : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، الآية .
2402 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج عن أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أرنا آية! فنزلت هذه الآية : "إن في خلق السماوات والأرض " . عطاء بن أبى رباح
2403 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر ، عن سعيد قال : سألت قريش اليهود فقالوا : حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصا وبيده البيضاء للناظرين . وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات ، فأخبروهم أنه كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله . فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا ، فنزداد يقينا ، ونتقوى به على عدونا . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه ، فأوحى إليه : [ ص: 270 ] إني معطيهم ، فأجعل لهم الصفا ذهبا ، ولكن إن كذبوا عذبتهم عذابا لم أعذبه أحدا من العالمين .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ذرني وقومي فأدعوهم يوما بيوم . فأنزل الله عليه : "إن في خلق السماوات والأرض " ، الآية : إن في ذلك لآية لهم ، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبا ، فخلق الله السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ، أعظم من أن أجعل لهم الصفا ذهبا ليزدادوا يقينا .
2404 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : " السدي إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار " ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : غير لنا الصفا ذهبا إن كنت صادقا أنه منه! فقال الله : إن في هذه الآيات لآيات لقوم يعقلون . وقال : قد سأل الآيات قوم قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ، أن الله تعالى ذكره نبه عباده على ، دون كل ما سواه من الأشياء بهذه الآية . وجائز أن تكون نزلت فيما قاله الدلالة على وحدانيته وتفرده بالألوهية عطاء ، وجائز أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى ، ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذر ، فيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقين بصحة قول على الآخر . وأي القولين كان صحيحا ، فالمراد من الآية ما قلت .