يقول تعالى ذكره : إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، بروا بوفائهم لله بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة الله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( يوفون بالنذر ) قال : إذا نذروا في حق الله .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( يوفون بالنذر ) قال : كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة والزكاة ، والحج والعمرة ، وما افترض عليهم ، فسماهم الله بذلك الأبرار ، فقال : ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( يوفون بالنذر ) قال : بطاعة الله ، وبالصلاة ، وبالحج ، وبالعمرة .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، قوله : ( يوفون بالنذر ) قال : في غير معصية ، وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة الكلام عليه منه ، وهو كان ذلك . وذلك أن معنى الكلام : إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا ، كانوا يوفون بالنذر ، فترك ذكر كانوا لدلالة الكلام عليها ، والنذر : هو كل ما أوجبه الإنسان على نفسه من فعل; ومنه قول عنترة : [ ص: 96 ]
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما والناذرين إذا لم ألقهما دمي
وقوله : ( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) يقول تعالى ذكره : ويخافون عقاب الله بتركهم الوفاء بما نذروا لله من بر في يوم كان شره مستطيرا ، ممتدا طويلا فاشيا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ويخافون يوما كان شره مستطيرا ) استطار والله شر ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض ، وأما رجل يقول عليه نذر أن لا يصل رحما ، ولا يتصدق ، ولا يصنع خيرا ، فإنه لا ينبغي أن يكفر عنه ، ويأتي ذلك ، ومنه قولهم : استطار الصدع في الزجاجة واستطال : إذا امتد ، ولا يقال ذلك في الحائط; ومنه قول الأعشى :
فبانت وقد أثأرت في الفؤا د صدعا على نأيها مستطيرا
يعني : ممتدا فاشيا .
وقوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) يقول تعالى ذكره : كان هؤلاء الأبرار يطعمون الطعام على حبهم إياه ، وشهوتهم له .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا يحيى بن طلحة اليربوعي ، قال : ثنا عن فضيل بن عياض ، منصور ، عن مجاهد ، في قوله : ( ويطعمون الطعام على حبه ) قال : وهم يشتهونه . [ ص: 97 ]
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا قال : ثنا يحيى بن واضح ، أبو العريان ، قال : سألت سليمان بن قيس أبا مقاتل بن سليمان ، عن قوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ) قال : على حبهم للطعام .
وقوله : ( مسكينا ) يعني جل ثناؤه بقوله مسكينا : ذوي الحاجة الذين قد أذلتهم الحاجة ، ( ويتيما ) وهو الطفل الذي قد مات أبوه ولا شيء له ( وأسيرا ) : وهو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرا بالغلبة ، أو من أهل القبلة يؤخذ فيحبس بحق ، فأثنى الله على هؤلاء الأبرار بإطعامهم هؤلاء تقربا بذلك إلى الله وطلب رضاه ، ورحمة منهم لهم .
واختلف أهل العلم في الأسير الذي ذكره الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : بما حدثنا به بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) قال : لقد أمر الله بالأسراء أن يحسن إليهم ، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( وأسيرا ) قال : كان أسراهم يومئذ المشرك ، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه .
قال : ثنا المعتمر ، عن أبيه ، عن أبي عمرو أن عكرمة قال في قوله : ( ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ) زعم أنه قال : كان الأسرى في ذلك الزمان المشرك .
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا حماد بن مسعدة ، قال : ثنا أشعث ، عن الحسن ( ويتيما وأسيرا ) قال : ما كان أسراهم إلا المشركين .
وقال آخرون : عني بذلك : المسجون من أهل القبلة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : الأسير : المسجون .
حدثني أبو شيبة بن أبي شيبة ، قال : ثنا عمر بن حفص ، قال : ثني أبي عن حجاج ، قال : ثني عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير في قول الله : ( مسكينا ويتيما وأسيرا ) من أهل القبلة وغيرهم ، فسألت عطاء ، فقال مثل ذلك .
حدثني علي بن سهل الرملي ، قال : ثنا يحيى - يعني : ابن عيسى - عن سفيان ، [ ص: 98 ] عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( وأسيرا ) قال : الأسير ، : هو المحبوس .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله وصف هؤلاء الأبرار بأنهم كانوا في الدنيا يطعمون الأسير ، والأسير الذي قد وصفت صفته; واسم الأسير قد يشتمل على الفريقين ، وقد عم الخبر عنهم أنهم يطعمونهم فالخبر على عمومه حتى يخصه ما يجب التسليم له . وأما قول من قال : لم يكن لهم أسير يومئذ إلا أهل الشرك ، فإن ذلك وإن كان كذلك ، فلم يخصص بالخبر الموفون بالنذر يومئذ ، وإنما هو خبر من الله عن كل من كانت هذه صفته يومئذ وبعده إلى يوم القيامة ، وكذلك الأسير معني به أسير المشركين والمسلمين يومئذ ، وبعد ذلك إلى قيام الساعة .
وقوله : ( إنما نطعمكم لوجه الله ) يقول تعالى ذكره : يقولون : إنما نطعمكم إذا هم أطعموهم لوجه الله ، يعنون طلب رضا الله ، والقربة إليه ( لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) يقولون للذين يطعمونهم ذلك الطعام : لا نريد منكم أيها الناس على إطعامناكم ثوابا ولا شكورا .
وفي قوله : ( ولا شكورا ) وجهان من المعنى : أحدهما أن يكون جمع الشكر كما الفلوس جمع فلس ، والكفور جمع كفر . والآخر : أن يكون مصدرا واحدا في معنى جمع ، كما يقال : قعد قعودا ، وخرج خروجا .
وقد حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن سالم ، عن مجاهد ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) قال : إما أنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله من قلوبهم ، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب .
حدثنا محمد بن سنان القزاز ، قال : ثنا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا محمد بن مسلم بن أبي الوضاح ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ( إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ) قال : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علمه الله من قلوبهم ، فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب .