قوله : ( قد أفلح من زكاها ) يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه ، فكثر تطهيرها من الكفر والمعاصي ، وأصلحها بالصالحات من الأعمال .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( قد أفلح من زكاها ) يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة : ( قد أفلح من زكاها ) قالوا : من أصلحها .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ولم يذكر وسعيد بن جبير ، عكرمة .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( قد أفلح من زكاها ) من عمل خيرا زكاها بطاعة الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( قد أفلح من زكاها ) قال : قد أفلح من زكى نفسه بعمل صالح .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( قد أفلح من زكاها ) يقول : قد أفلح من زكى الله نفسه .
وهذا هو موضع القسم ; كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، [ ص: 457 ] عن قتادة ، قال : قد وقع القسم هاهنا ( قد أفلح من زكاها ) وقد ذكرت ما تقول أهل العربية في ذلك فيما مضى من نظائره قبل .
وقوله : ( وقد خاب من دساها ) يقول تعالى ذكره : وقد خاب في طلبته ، فلم يدرك ما طلب والتمس لنفسه من الصلاح من دساها يعني : من دسس الله نفسه فأخملها ، ووضع منها بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي ، وترك طاعة الله . وقيل : دساها وهي دسسها ، فقلبت إحدى سيناتها ياء ، كما قال العجاج :
تقضي البازي إذا البازي كسر
يريد : تقضض . وتظنيت هذا الأمر ، بمعنى : تظننت ، والعرب تفعل ذلك كثيرا ، فتبدل في الحرف المشددة بعض حروفه ، ياء أحيانا ، وواوا أحيانا ; ومنه قول الآخر :
يذهب بي في الشعر كل فن حتى يرد عني التظني
يريد : التظنن .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( وقد خاب من دساها ) يقول : وقد خاب من دسى الله نفسه فأضله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( وقد خاب من دساها ) يعني : تكذيبها .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ( وسعيد بن جبير وقد خاب من دساها ) قال أحدهما : أغواها ، وقال الآخر : أضلها . [ ص: 458 ]
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن مجاهد ( وقد خاب من دساها ) قال : أضلها ، وقال سعيد : من أغواها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( من دساها ) قال : أغواها .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( وقد خاب من دساها ) قال : أثمها وأفجرها .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وقد خاب ) يقول : وقد خاب من دسى الله نفسه .
وقوله : ( كذبت ثمود بطغواها ) يقول : كذبت ثمود بطغيانها ، يعني : بعذابها الذي وعدهموه صالح عليه السلام ، فكان ذلك العذاب طاغيا طغى عليهم ، كما قال جل ثناؤه : ( فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية ) .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وإن كان فيه اختلاف بين أهل التأويل .
ذكر من قال القول الذي قلنا في ذلك :
حدثني سعيد بن عمرو السكوني ، قال : ثنا الوليد بن سلمة الفلسطيني ، قال : ثني يزيد بن سمرة المذحجي عن عن عطاء الخراساني ، ابن عباس ، في قول الله : ( كذبت ثمود بطغواها ) قال : اسم العذاب الذي جاءها ، الطغوى ، فقال : كذبت ثمود بعذابها .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( كذبت ثمود بطغواها ) أي : الطغيان .
وقال آخرون : كذبت ثمود بمعصيتهم الله .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد [ ص: 459 ] ( كذبت ثمود بطغواها ) قال : معصيتها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( كذبت ثمود بطغواها ) قال : بغيانهم وبمعصيتهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك بأجمعها .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب وابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية ، عن محمد بن رفاعة القرظي ، عن محمد بن كعب ، أنه قال : ( كذبت ثمود بطغواها ) قال : بأجمعها .
حدثني قال : ثنا ابن عبد الرحيم البرقي ، ابن أبي مريم ، قال : أخبرني يحيى بن أيوب ، قال : ثني عمارة بن غزية ، عن محمد بن رفاعة القرظي ، عن محمد بن كعب ، مثله .
وقيل ( طغواها ) بمعنى : طغيانهم ، وهما مصدران للتوفيق بين رءوس الآي ؛ إذ كانت الطغوى أشبه بسائر رءوس الآيات في هذه السورة ، وذلك نظير قوله : ( وآخر دعواهم ) بمعنى : وآخر دعائهم .
وقوله : ( إذ انبعث أشقاها ) يقول : إذ ثار أشقى ثمود ، وهو قدار بن سالف .
كما حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا الطفاوي ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عبد الله بن زمعة ، إذ انبعث أشقاها ) انبعث لها رجل عزيز عارم ، منيع في رهطه ، مثل أبي زمعة " . قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر في خطبته الناقة ، والذي عقرها ، فقال : (
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قالا : ثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : ( إذ انبعث أشقاها ) يعني أحيمر ثمود .
وقوله : ( فقال لهم رسول الله ) يعني بذلك جل ثناؤه : صالحا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لثمود صالح : ( ناقة الله وسقياها ) احذروا ناقة الله وسقياها ، وإنما حذرهم سقيا الناقة ؛ لأنه كان تقدم إليهم عن أمر الله ، أن للناقة شرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر ، غير يوم الناقة ، على ما قد بينت فيما مضى قبل .
وكما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها ) [ ص: 460 ] قسم الله الذي قسم لها من هذا الماء .
وقوله : ( فكذبوه فعقروها ) يقول : فكذبوا صالحا في خبره الذي أخبرهم به ، من أن الله الذي جعل شرب الناقة يوما ، ولهم شرب يوم معلوم ، وأن الله يحل بهم نقمته ، إن هم عقروها ، كما وصفهم جل ثناؤه فقال : ( كذبت ثمود وعاد بالقارعة ) ، وقد يحتمل أن يكون التكذيب بالعقر . وإذا كان ذلك كذلك ، جاز تقديم التكذيب قبل العقر ، والعقر قبل التكذيب ، وذلك أن كل فعل وقع عن سبب حسن ابتداؤه قبل السبب وبعده ، كقول القائل : أعطيت فأحسنت ، وأحسنت فأعطيت ; لأن الإعطاء هو الإحسان ، ومن الإحسان الإعطاء ، وكذلك لو كان العقر هو سبب التكذيب ، جاز تقديم ؛ أي : ذلك شاء المتكلم . وقد زعم بعضهم أن قوله : ( فكذبوه ) كلمة مكتفية بنفسها ، وأن قوله : ( فعقروها ) جواب لقوله : ( إذ انبعث أشقاها ) كأنه قيل : إذ انبعث أشقاها فعقرها ، فقال : وكيف قيل ( فكذبوه فعقروها ) وقد كان القوم قبل قتل الناقة مسلمين ، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم آخر . قيل : جاء الخبر أنهم بعد تسليمهم ذلك أجمعوا على منعها الشرب ، ورضوا بقتلها ، وعن رضا جميعهم قتلها قاتلها ، وعقرها من عقرها ولذلك نسب التكذيب والعقر إلى جميعهم ، فقال جل ثناؤه : ( فكذبوه فعقروها ) .
وقوله : ( فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) يقول تعالى ذكره : فدمر عليهم ربهم بذنبهم ذلك ، وكفرهم به ، وتكذيبهم رسوله صالحا ، وعقرهم ناقته ( فسواها ) يقول : فسوى الدمدمة عليهم جميعهم ، فلم يفلت منهم أحد .
كما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ) ذكر لنا أن أحيمر ثمود أبى أن يعقرها ، حتى بايعه صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها .
حدثني بشر بن آدم ، قال : ثنا قتيبة ، قال : ثنا أبو هلال ، قال : سمعت الحسن يقول : لما عقروا الناقة طلبوا فصيلها ، فصار في قارة الجبل ، فقطع الله قلوبهم .
وقوله : ( ولا يخاف عقباها ) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا يخاف تبعة دمدمته عليهم . [ ص: 461 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله : ( ولا يخاف عقباها ) قال : لا يخاف الله من أحد تبعة .
حدثني إبراهيم بن المستمر ، قال : ثنا عثمان بن عمرو ، قال : ثنا عمر بن مرثد ، عن الحسن ، في قوله : ( ولا يخاف عقباها ) قال : ذاك ربنا تبارك وتعالى ، لا يخاف تبعة مما صنع بهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، عمرو بن منبه ، هكذا هو في كتابي ، سمعت الحسن قرأ : ( ولا يخاف عقباها ) قال : ذلك الرب صنع ذلك بهم ، ولم يخف تبعة .
حدثني يعقوب ، قال : ثنا عن ابن علية ، أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( ولا يخاف عقباها ) قال : لا يخاف تبعتهم .
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا يخاف عقباها ) يقول : لا يخاف أن يتبع بشيء مما صنع بهم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( ولا يخاف عقباها ) قال محمد بن عمرو في حديثه ، قال الله : ( ولا يخاف عقباها ) . وقال الحارث في حديثه : الله لا يخاف عقباها .
حدثني محمد بن سنان ، قال : ثنا يعقوب ، قال : ثنا رزين بن إبراهيم ، عن أبي سليمان ، قال : سمعت يقول في قوله : ( بكر بن عبد الله المزني ولا يخاف عقباها ) قال : لا يخاف الله التبعة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولم يخف الذي عقرها عقباها ؛ أي : عقبى فعلته التي فعل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، قال : ثنا أبو روق ، قال : ثنا الضحاك ( ولا يخاف عقباها ) قال : لم يخف الذي عقرها عقباها .
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن : ( السدي ولا يخاف عقباها ) قال : لم يخف الذي عقرها عقباها . [ ص: 462 ]
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا مهران ، عن سفيان ، عن ( السدي ولا يخاف عقباها ) قال : الذي لا يخاف الذي صنع ، عقبى ما صنع .
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والشام ( فلا يخاف عقباها ) بالفاء ، وكذلك ذلك في مصاحفهم ، وقرأته عامة قراء العراق في المصرين بالواو ( ولا يخاف عقباها ) وكذلك هو في مصاحفهم .
والصواب من القول في ذلك : أنهما قراءتان معروفتان ، غير مختلفي المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب .
واختلفت القراء في إمالة ما كان من ذوات الواو في هذه السورة وغيرها ، كقوله : ( والقمر إذا تلاها ) ( وما طحاها ) ونحو ذلك ، فكان يفتح ذلك كله عامة قراء الكوفة ، ويميلون ما كان من ذوات الياء ، غير عاصم فإن والكسائي ، عاصما كان يفتح جميع ذلك ما كان منه من ذوات الواو وذوات الياء ، لا يضجع منه شيئا .
وكان الكسائي يكسر ذلك كله . وكان أبو عمرو ينظر إلى اتساق رءوس الآي ، فإن كانت متسقة على شيء واحد أمال جميعها ، وأما عامة قراء المدينة فإنهم لا يميلون شيئا من ذلك الإمالة الشديدة ، ولا يفتحونه الفتح الشديد ، ولكن بين ذلك وأفصح ذلك وأحسنه أن ينظر إلى ابتداء السورة ، فإن كانت رءوسها بالياء أجرى جميعها بالإمالة غير الفاحشة ، وإن كانت رءوسها بالواو فتحت وجرى جميعها بالفتح غير الفاحش ، وإذا انفرد نوع من ذلك في موضع أميل ذوات الياء الإمالة المعتدلة ، وفتح ذوات الواو الفتح المتوسط ، وإن أميلت هذه ، وفتحت هذه لم يكن لحنا ، غير أن الفصيح من الكلام هو الذي وصفنا صفته .
آخر تفسير سورة والشمس وضحاها