يعني جل ثناؤه بقوله : ( وما يغني عنه ماله ) : أي شيء يدفع عن هذا الذي بخل بماله ، واستغنى عن ربه ، ماله يوم القيامة ( إذا ) هو ( تردى ) .
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ( إذا تردى ) فقال بعضهم : تأويله : إذا تردى في جهنم ؛ أي : سقط فيها فهوى .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي صالح ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) قال : في جهنم . قال أبو كريب : قد سمع الأشجعي من إسماعيل ذلك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قوله : ( إذا تردى ) قال : إذا تردى في النار .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : إذا مات .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا عن وكيع ، سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ( وما يغني عنه ماله إذا تردى ) قال : إذا مات .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( إذا تردى ) قال : إذا مات
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : إذا مات .
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : معناه : إذا تردى في جهنم ؛ لأن ذلك هو المعروف من التردي ، فأما إذا أريد معنى الموت ، فإنه يقال : ردي فلان ، وقلما يقال : تردى .
وقوله : ( إن علينا للهدى ) يقول تعالى ذكره : إن علينا لبيان الحق من الباطل ، والطاعة من المعصية .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 477 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( إن علينا للهدى ) يقول : على الله البيان ، بيان حلاله وحرامه ، وطاعته ومعصيته .
وكان بعض أهل العربية يتأوله بمعنى : أنه من سلك الهدى فعلى الله سبيله ، ويقول وهو مثل قوله : ( وعلى الله قصد السبيل ) ويقول : معنى ذلك : من أراد الله فهو على السبيل القاصد ، وقال : يقال معناه : إن علينا للهدى والإضلال ، كما قال : ( سرابيل تقيكم الحر ) وهي تقي الحر والبرد .
وقوله : ( وإن لنا للآخرة والأولى ) يقول : وإن لنا ملك ما في الدنيا والآخرة ، نعطي منهما من أردنا من خلقنا ، ونحرمه من شئنا .
وإنما عني بذلك جل ثناؤه أنه يوفق لطاعته من أحب من خلقه ، فيكرمه بها في الدنيا ، ويهيئ له الكرامة والثواب في الآخرة ، ويخذل من يشاء خذلانه من خلقه عن طاعته ، فيهينه بمعصيته في الدنيا ، ويخزيه بعقوبته عليها في الآخرة .
ثم قال جل ثناؤه : ( فأنذرتكم نارا تلظى ) يقول تعالى ذكره : فأنذرتكم أيها الناس نارا تتوهج ، وهي نار جهنم ، يقول : احذروا أن تعصوا ربكم في الدنيا ، وتكفروا به ، فتصلونها في الآخرة . وقيل : تلظى ، وإنما هي تتلظى ، وهي في موضع رفع ، لأنه فعل مستقبل ، ولو كان فعلا ماضيا لقيل : فأنذرتكم نارا تلظت .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ( نارا تلظى ) قال : توهج .
وقوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) يقول جل ثناؤه : لا يدخلها فيصلى بسعيرها إلا الأشقى ، ( الذي كذب وتولى ) يقول : الذي كذب بآيات ربه ، وأعرض عنها ، ولم يصدق بها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . [ ص: 478 ]
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا قال : ثنا وكيع ، هشام بن الغاز ، عن مكحول ، عن قال : لتدخلن الجنة إلا من يأبى ، قالوا : يا أبي هريرة ، : ومن يأبى أن يدخل الجنة ؟ قال : فقرأ : ( أبا هريرة الذي كذب وتولى ) .
حدثني الحسن بن ناصح ، قال : ثنا الحسن بن حبيب قالا : ثنا ومعاذ بن معاذ ، الأشعث ، عن الحسن في قوله : ( لا يصلاها إلا الأشقى ) قال معاذ : الذي كذب وتولى ، ولم يقله الحسن ، قال : المشرك .
وكان بعض أهل العربية يقول : لم يكن كذب برد ظاهر ، ولكن قصر عما أمر به من الطاعة ، فجعل تكذيبا ، كما تقول : لقي فلان العدو ، فكذب إذا نكل ورجع ، وذكر أنه سمع بعض العرب يقول : ليس لحدهم مكذوبة ، بمعنى : أنهم إذا لقوا صدقوا القتال ، ولم يرجعوا ; قال : وكذلك قول الله : ( ليس لوقعتها كاذبة ) .
وقوله : ( وسيجنبها الأتقى ) يقول : وسيوقى صلي النار التي تلظى التقي ، ووضع أفعل موضع فعيل ، كما قال طرفة :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد
وقوله : ( الذي يؤتي ماله يتزكى ) يقول : الذي يعطي ماله في الدنيا في حقوق الله التي ألزمه إياها ، ( يتزكى ) : يعني : يتطهر بإعطائه ذلك من ذنوبه .