قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : يسألك أصحابك يا محمد ، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به ؟ ، وعلى من ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به ؟ فقل لهم : ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به ، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم ، ولليتامى منكم ، والمساكين ، وابن السبيل ، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم ، وهو محصيه لكم حتى يوفيكم أجوركم عليه يوم القيامة ، ويثيبكم على ما أطعتموه بإحسانكم عليه . [ ص: 292 ]
و"الخير" الذي قال جل ثناؤه في قوله : " قل ما أنفقتم من خير " ، هو المال الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من النفقة منه ، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية .
وفي قوله : "ماذا" ، وجهان من الإعراب .
أحدهما : أن يكون"ماذا" بمعنى : أي شيء ؟ فيكون نصبا بقوله : "ينفقون" .
فيكون معنى الكلام حينئذ : يسألونك أي شيء ينفقون؟ ، ولا ينصب ب "يسألونك" . والآخر منهما الرفع . وللرفع في"ذلك" وجهان : أحدهما أن يكون"ذا" الذي مع"ما" بمعنى"الذي" ، فيرفع"ما" ب "ذا" و"ذا" ل "ما" ، و"ينفقون" من صلة"ذا" ، فإن العرب قد تصل"ذا" و"هذا" ، كما قال الشاعر :
عدس! ما لعباد عليك إمارة أمنت وهذا تحملين طليق!
ف "تحملين" من صلة"هذا" .
فيكون تأويل الكلام حينئذ : يسألونك ما الذي ينفقون؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون" ماذا " بمعنى أي شيء ، فيرفع" ماذا " ، [ ص: 293 ] وإن كان قوله : " ينفقون " واقعا عليه ، إذ كان العامل فيه ، وهو" ينفقون " ، لا يصلح تقديمه قبله ، وذلك أن الاستفهام لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام ، كما قال الشاعر :
ألا تسألان المرء ماذا يحاول أنحب فيقضى أم ضلال وباطل
وكما قال الآخر :
وقالوا تعرفها المنازل من منى وما كل من يغشى منى أنا عارف
فرفع "كل" ولم ينصبه"بعارف" ، إذ كان معنى قوله : "وما كل من يغشى منى أنا عارف" جحود معرفة من يغشى منى فصار في معنى ما أحد . وهذه الآية [ نزلت ] - فيما ذكر - قبل أن يفرض الله زكاة الأموال .
ذكر من قال ذلك :
4068 - حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا [ ص: 294 ] أسباط ، عن : " السدي يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " ، قال : يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة ، وإنما هي النفقة ينفقها الرجل على أهله ، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة .
4069 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال : سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أين يضعون أموالهم ؟ فنزلت : " ابن جريج يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل " ، فذلك النفقة في التطوع ، والزكاة سوى ذلك كله قال : وقال مجاهد : سألوا فأفتاهم في ذلك : " ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما .
4070 - حدثنا محمد بن عمرو ، قال حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثني عيسى ، قال : سمعت ابن أبي نجيح في قول الله : " يسألونك ماذا ينفقون " ، قال : سألوه فأفتاهم في ذلك : " فللوالدين والأقربين " وما ذكر معهما .
4071 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد وسألته عن قوله : " قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " قال : هذا من النوافل ، قال : يقول : هم أحق بفضلك من غيرهم .
قال أبو جعفر : وهذا الذي قاله : من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاة ، وإنما كانت نفقة ينفقها الرجل على أهله ، وصدقة يتصدق بها ، ثم نسختها الزكاة قول ممكن أن يكون كما قال ، وممكن غيره . ولا دلالة في الآية على صحة ما قال ؛ لأنه ممكن أن يكون قوله : " السدي قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين " الآية ، حثا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غير واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء ، ومن سمي معهم في هذه الآية ، وتعريفا من [ ص: 295 ] الله عباده مواضع الفضل التي تصرف فيها النفقات ، كما قال في الآية الأخرى : ( وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة ) [ سورة البقرة : 177 ] . وهذا القول الذي قلناه في قول الذي حكيناه . ابن جريج
وقد بينا معنى المسكنة ، ومعنى ابن السبيل فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته .