القول في تأويل قوله ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى )
قال أبو جعفر : يعني - تعالى ذكره - بذلك : ( يا أيها الذين آمنوا ) صدقوا الله ورسوله ( لا تبطلوا صدقاتكم ) يقول : لا تبطلوا أجور صدقاتكم بالمن والأذى كما أبطل كفر الذي ينفق ماله ( رئاء الناس ) ، وهو مراءاته إياهم بعمله ، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناس في الظاهر أنه يريد الله - تعالى ذكره - فيحمدونه عليه ، وهو غير مريد به الله ولا طالب منه الثواب ، وإنما ينفقه كذلك ظاهرا [ ص: 522 ] ليحمده الناس عليه فيقولوا : هو سخي كريم ، وهو رجل صالح " فيحسنوا عليه به الثناء ، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق ، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله - تعالى ذكره - واليوم الآخر .
وأما قوله : ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، فإن معناه : ولا يصدق بوحدانية الله وربوبيته ، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازى على عمله ، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده . وهذه صفة المنافق . وإنما قلنا إنه منافق ؛ لأن المظهر كفره والمعلن شركه ، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيا ؛ لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله ، وفي الباطن مريبة سريرة عامله ، مراده به حمد الناس عليه . والكافر لا يخيل على أحد أمره أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان - إذا كان معلنا كفره - لا لله . ومن كان كذلك ، فغير كائن مرائيا بأعماله .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
6039 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال أبو هانئ الخولاني ، عن عمرو بن حريث قال : إن الرجل يغزو لا يسرق ولا يزني ولا يغل ، لا يرجع بالكفاف ! فقيل له : لم ذاك ؟ قال : إن الرجل ليخرج ، فإذا أصابه من [ ص: 523 ] بلاء الله الذي قد حكم عليه ، سب ولعن إمامه ولعن ساعة غزا ، وقال : لا أعود لغزوة معه أبدا ! فهذا عليه ، وليس له مثل النفقة في سبيل الله يتبعها من وأذى . فقد ضرب الله مثلها في القرآن : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) ، حتى ختم الآية .