قال أبو جعفر : يعني بذلك جل ثناؤه : ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ) فيصدقون بها ، ويحملون عليها في سبيل الله ، ويقوون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله ، وفي غير ذلك من طاعات الله طلب مرضاته . [ ص: 531 ] ( وتثبيتا من أنفسهم ) يعني بذلك : وتثبيتا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقا من قول القائل : " ثبت فلانا في هذا الأمر " - إذا صححت عزمه ، وحققته ، وقويت فيه رأيه - " أثبته تثبيتا " كما قال ابن رواحة :
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصرا كالذي نصروا
وإنما عنى الله - جل وعز - بذلك أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير من ولا أذى ، فثبتتهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله ، وصححت عزمهم وآراءهم ، يقينا منها بذلك ، وتصديقا بوعد الله إياها ما وعدها . ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله : ( وتثبيتا ) وتصديقا ، ومن قال منهم : ويقينا ؛ لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالهم ابتغاء مرضاة الله إياهم إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله .
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل :
6063 - حدثنا ابن بشار قال : حدثنا يحيى قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : تصديقا ويقينا . [ ص: 532 ]
6064 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان ، عن أبي موسى ، عن الشعبي : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : وتصديقا من أنفسهم : ثبات ونصرة .
6065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : يقينا من أنفسهم . قال : التثبيت اليقين .
6066 - حدثني يونس قال : حدثنا علي بن معبد ، عن أبي معاوية ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) يقول : يقينا من عند أنفسهم .
وقال آخرون : معنى قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم .
ذكر من قال ذلك :
6067 - حدثنا قال : حدثنا محمد بن بشار مؤمل قال : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .
6068 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد بن نصر قال : حدثنا ابن المبارك ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( وتثبيتا من أنفسهم ) فقلت له : ما ذلك التثبيت ؟ قال : يتثبتون أين يضعون أموالهم .
6069 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : كانوا يتثبتون أين يضعونها .
6070 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن علي بن علي بن رفاعة ، عن الحسن في قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) قال : كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم - يعني زكاتهم . [ ص: 533 ]
6071 - حدثني المثنى قال : حدثنا سويد قال : حدثنا ابن المبارك ، عن علي بن علي قال : سمعت الحسن قرأ : ( ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم ) قال : كان الرجل إذا هم بصدقة تثبت ، فإن كان لله مضى ، وإن خالطه شك أمسك .
قال أبو جعفر : وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن ، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة ، وذلك أنهم تأولوا قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) بمعنى : " وتثبتا " فزعموا أن ذلك إنما قيل كذلك ؛ لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم . ولو كان التأويل كذلك ، لكان : " وتثبتا من أنفسهم " ; لأن المصدر من الكلام إن كان على " تفعلت " " التفعل " فيقال : " تكرمت تكرما " " وتكلمت تكلما " وكما قال جل ثناؤه : ( أو يأخذهم على تخوف ) [ النحل : 47 ] من قول القائل : " تخوف فلان هذا الأمر تخوفا " . فكذلك قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) لو كان من " تثبت القوم في وضع صدقاتهم مواضعها " لكان الكلام : " وتثبتا من أنفسهم " لا " وتثبيتا " . ولكن معنى ذلك ما قلنا من أنه : وتثبيت من أنفس القوم إياهم بصحة العزم واليقين بوعد الله - تعالى ذكره - .
فإن قال قائل : وما تنكر أن يكون ذلك نظير قول الله عز وجل : ( وتبتل إليه تبتيلا ) [ المزمل : 8 ] ، ولم يقل : " تبتلا " .
قيل : إن هذا مخالف لذلك . وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه : " تبتيلا " لظهور " وتبتل إليه " فكان في ظهوره دلالة على متروك من الكلام الذي منه [ ص: 534 ] قيل : " تبتيلا " . وذلك أن المتروك هو : " تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا " . وقد تفعل العرب مثل ذلك أحيانا ، تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها ، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه ، كما قال جل وعز : ( والله أنبتكم من الأرض نباتا ) [ نوح : 17 ] . وقال : ( وأنبتها نباتا حسنا ) [ آل عمران : 37 ] . " والنبات " : مصدر " نبت " . وإنما جاز ذلك لمجيء " أنبت " قبله ، فدل على المتروك الذي منه قيل " نباتا " والمعنى : " والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتا " . وليس [ في ] قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) كلاما يجوز أن يكون متوهما به أنه معدول عن بنائه ، ومعنى الكلام : " ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها " فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله : ( وتبتل إليه تبتيلا ) ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها .
وقال آخرون : معنى قوله : ( وتثبيتا من أنفسهم ) احتسابا من أنفسهم .
ذكر من قال ذلك :
6073 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وتثبيتا من أنفسهم ) يقول : احتسابا من أنفسهم .
قال أبو جعفر : وهذا القول أيضا بعيد المعنى من معنى " التثبيت " لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى " الاحتساب " إلا أن يكون أراد مفسره كذلك : أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها . فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام ، فليس الاحتساب بمعنى حينئذ للتثبيت ، فيترجم عنه به .