قال أبو جعفر : يعني بقوله - جل ثناؤه - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء ، هو الذي أنزل عليك الكتاب يعني ب " الكتاب " القرآن . [ ص: 170 ]
وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمي القرآن " كتابا " بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
وأما قوله : " منه آيات محكمات " فإنه يعني : من الكتاب آيات . يعني ب " الآيات " آيات القرآن .
وأما " المحكمات " فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل ، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جعلن أدلة عليه من حلال وحرام ، ووعد ووعيد ، وثواب وعقاب ، وأمر وزجر ، وخبر ومثل ، وعظة وعبر ، وما أشبه ذلك .
ثم وصف - جل ثناؤه - : هؤلاء " الآيات المحكمات " بأنهن " هن أم الكتاب " . يعني بذلك : أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود ، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم ، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم .
وإنما سماهن " أم الكتاب " لأنهن معظم الكتاب ، وموضع مفزع أهله عند الحاجة إليه ، وكذلك تفعل العرب ، تسمي الجامع معظم الشيء " أما " له . فتسمي راية القوم التي تجمعهم في العساكر : " أمهم " والمدبر معظم أمر القرية والبلدة " أمها " .
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته .
ووحد " أم الكتاب " ولم يجمع فيقول : هن أمهات الكتاب ، وقد قال : " هن " لأنه أراد جميع الآيات المحكمات " أم الكتاب " لا أن كل آية منهن " أم الكتاب " . ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن " أم الكتاب " [ ص: 171 ] لكان لا شك قد قيل : " هن أمهات الكتاب " . ونظير قول الله - عز وجل - : " هن أم الكتاب " على التأويل الذي قلنا في توحيد " الأم " وهي خبر ل " هن " قوله - تعالى ذكره - : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آية ) [ سورة المؤمنون : 50 ] ولم يقل : آيتين ، لأن معناه : وجعلنا جميعهما آية . إذ كان المعنى واحدا فيما جعلا فيه للخلق عبرة . ولو كان مرادا الخبر عن كل واحد منهما على انفراده ، بأنه جعل للخلق عبرة ، لقيل : وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين ، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة . وذلك أن مريم ولدت من غير رجل ، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيا ، فكان في كل واحد منهما للناس آية .
وقد قال بعض نحويي البصرة : إنما قيل : " هن أم الكتاب " ولم يقل : " هن أمهات الكتاب " على وجه الحكاية ، كما يقول الرجل : " ما لي أنصار " فتقول : " أنا أنصارك " أو : " ما لي نظير " فتقول : " نحن نظيرك " . قال : وهو شبيه : " دعني من تمرتان " وأنشد لرجل منفقعس :
تعرضت لي بمكان حل تعرض المهرة في الطول
تعرضا لم تأل عن قتلا لي
[ ص: 172 ]" حل " أي : يحل به . على الحكاية ، لأنه كان منصوبا قبل ذلك ، كما يقول : " نودي : الصلاة الصلاة " يحكي قول القائل : " الصلاة الصلاة " .
وقال : قال بعضهم : إنما هي : " أن قتلا لي " ولكنه جعله " عينا " لأن " أن " في لغته تجعل موضعها " عن " والنصب على الأمر ، كأنك قلت : " ضربا لزيد " .
قال أبو جعفر : وهذا قول لا معنى له . لأن كل هذه الشواهد التي استشهدها ، لا شك أنهن حكايات حاكيهن ، بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن وأن معلوما أن الله - جل ثناؤه - لم يحك عن أحد قوله : " أم الكتاب " فيجوز أن يقال : أخرج ذلك مخرج الحكاية عمن قال ذلك كذلك .
وأما قوله : " وأخر " فإنها جمع " أخرى " . [ ص: 173 ]
ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف " أخر " .
فقال بعضهم : لم يصرف " أخر " من أجل أنها نعت ، واحدتها " أخرى " كما لم تصرف " جمع " و " كتع " لأنهن نعوت .
وقال آخرون : إنما لم تصرف " الأخر " لزيادة الياء التي في واحدتها ، وأن جمعها مبني على واحدها في ترك الصرف . قالوا : وإنما ترك صرف " أخرى " كما ترك صرف " حمراء " و " بيضاء " في النكرة والمعرفة لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو . ثم افترق جمع " حمراء " و " أخرى " فبني جمع " أخرى " على واحدته فقيل : " فعل " و " أخر " فترك صرفها كما ترك صرف " أخرى " وبني جمع " حمراء " و " بيضاء " على خلاف واحدته فصرف ، فقيل : " حمر " و " بيض " فلاختلاف حالتهما في الجمع ، اختلف إعرابهما عندهم في الصرف . ولاتفاق حالتيهما في الواحدة ، اتفقت حالتاهما فيها .
وأما قوله : " متشابهات " فإن معناه : متشابهات في التلاوة ، مختلفات في المعنى ، كما قال - جل ثناؤه - : ( وأتوا به متشابها ) [ سورة البقرة : 25 ] ، يعني في المنظر ، مختلفا في المطعم وكما قال مخبرا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال : ( إن البقر تشابه علينا ) [ سورة البقرة : 70 ] ، يعنون بذلك : تشابه علينا في الصفة ، وإن اختلفت أنواعه . [ ص: 174 ]
فتأويل الكلام إذا : إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن ، منه آيات محكمات بالبيان ، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادك وعماد أمتك في الدين ، وإليه مفزعك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام وآيات أخر هن متشابهات في التلاوة مختلفات في المعاني .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " وما المحكم من آي الكتاب ، وما المتشابه منه ؟
فقال بعضهم : " المحكمات " من آي القرآن ، المعمول بهن ، وهن الناسخات أو المثبتات الأحكام " والمتشابهات " من آيه المتروك العمل بهن المنسوخات .
ذكر من قال ذلك :
6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : حدثنا هشيم قال أخبرنا العوام ، عمن حدثه ، عن ابن عباس في قوله : " منه آيات محكمات " قال : هي الثلاث الآيات من هاهنا : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ) [ سورة الأنعام : 151 ، 152 ] ، إلى ثلاث آيات ، والتي في " بني إسرائيل " : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ سورة الإسراء : 23 - 39 ] ، إلى آخر الآيات . [ ص: 175 ]
6574 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو صالح قال : حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " المحكمات : ناسخه ، وحلاله ، وحرامه ، وحدوده وفرائضه ، وما يؤمن به ويعمل به قال : " وأخر متشابهات " والمتشابهات : منسوخه ، ومقدمه ومؤخره ، وأمثاله وأقسامه ، وما يؤمن به ولا يعمل به .
6575 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال حدثني عمي قال حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : " هو الذي أنزل عليك الكتاب " إلى " وأخر متشابهات " فالمحكمات التي هي أم الكتاب : الناسخ الذي يدان به ويعمل به . والمتشابهات ، هن المنسوخات التي لا يدان بهن .
6576 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن في خبر ذكره ، عن السدي أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن عن مرة الهمداني ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " إلى قوله : " كل من عند ربنا " أما " الآيات المحكمات " : فهن الناسخات التي يعمل بهن وأما " المتشابهات " فهن المنسوخات .
6577 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب " و " المحكمات " : الناسخ الذي يعمل به ، ما أحل الله فيه حلاله وحرم فيه حرامه وأما " المتشابهات " : فالمنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به .
6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " آيات محكمات " قال : المحكم ما يعمل به .
6579 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن [ ص: 176 ] أبيه ، عن الربيع : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات " قال : " المحكمات " الناسخ الذي يعمل به و " المتشابهات " : المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به .
6580 - حدثني المثنى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا هشيم عن جويبر عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : الناسخات " وأخر متشابهات " قال : ما نسخ وترك يتلى .
6581 - حدثني ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن سلمة بن نبيط عن الضحاك بن مزاحم قال : المحكم ، ما لم ينسخ وما تشابه منه ما نسخ .
6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال أخبرنا يزيد قال أخبرنا جويبر عن الضحاك في قوله : " آيات محكمات هن أم الكتاب " قال : الناسخ " وأخر متشابهات " قال : المنسوخ .
6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ يحدث قال أخبرنا عبيد بن سليمان قال سمعت الضحاك يقول في قوله : " منه آيات محكمات " يعني الناسخ الذي يعمل به " وأخر متشابهات " يعني المنسوخ ، يؤمن به ولا يعمل به .
6584 - حدثني أحمد بن حازم قال : حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا سلمة عن الضحاك : " منه آيات محكمات " قال : ما لم ينسخ " وأخر متشابهات " قال : ما قد نسخ .
وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما أحكم الله فيه بيان حلاله وحرامه " والمتشابه " منها : ما أشبه بعضه بعضا في المعاني ، وإن اختلفت ألفاظه .
ذكر من قال ذلك : [ ص: 177 ]
6585 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله : " منه آيات محكمات " ما فيه من الحلال والحرام ، وما سوى ذلك فهو " متشابه " يصدق بعضه بعضا وهو مثل قوله : ( وما يضل به إلا الفاسقين ) [ سورة البقرة : 26 ] ، ومثل قوله : ( كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) [ سورة الأنعام : 125 ] ، ومثل قوله : ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ) [ سورة محمد : 17 ] .
6586 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله .
وقال آخرون : " المحكمات " من آي الكتاب : ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد " والمتشابه " منها : ما احتمل من التأويل أوجها .
ذكر من قال ذلك :
6587 - حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن جعفر بن الزبير : " هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات " فيهن حجة الرب ، وعصمة العباد ، ودفع الخصوم والباطل ، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه " وأخر متشابهات " في الصدق ، لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق . [ ص: 178 ]
وقال آخرون : معنى " المحكم " : ما أحكم الله فيه من آي القرآن ، وقصص الأمم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم ، ففصله ببيان ذلك لمحمد وأمته " والمتشابه " هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور ، بقصه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني ، وبقصه باختلاف الألفاظ واتفاق المعاني .
ذكر من قال ذلك :
6588 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد وقرأ : ( الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) [ سورة هود : 1 ] ، قال : وذكر حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أربع وعشرين آية منها : وحديث نوح في أربع وعشرين آية منها . ثم قال : ( تلك من أنباء الغيب ) [ سورة هود : 49 ] ، ثم ذكر ( وإلى عاد ) ، فقرأ حتى بلغ ( واستغفروا ربكم ) ثم مضى . ثم ذكر صالحا وإبراهيم ولوطا وشعيبا وفرغ من ذلك . وهذا تبيين ذلك ، تبيين " أحكمت آياته ثم فصلت " قال : والمتشابه ذكر موسى في أمكنة [ ص: 179 ] كثيرة ، وهو متشابه ، وهو كله معنى واحد . ومتشابه : ( فاسلك فيها ) ( احمل فيها ) ، ( اسلك يدك ) ( أدخل يدك ) ، ( حية تسعى ) ( ثعبان مبين ) قال : ثم ذكر هودا في عشر آيات منها ، وصالحا في ثماني آيات منها ، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى ، ولوطا في ثماني آيات منها ، وشعيبا في ثلاث عشرة آية ، وموسى في أربع آيات ، كل هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة ، فانتهى ذلك إلى مائة آية من سورة هود ، ثم قال : ( ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد ) [ سورة هود : 100 ] . وقال في المتشابه من القرآن : من يرد الله به البلاء والضلالة يقول : ما شأن هذا لا يكون هكذا ؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا ؟
وقال آخرون : بل " المحكم " من آي القرآن : ما عرف العلماء تأويله ، وفهموا معناه وتفسيره و " المتشابه " : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه ، وذلك نحو الخبر عن وقت مخرج عيسى ابن مريم ، ووقت طلوع الشمس من مغربها ، وقيام الساعة ، وفناء الدنيا ، وما أشبه ذلك ، فإن ذلك لا يعلمه أحد . وقالوا : إنما سمى الله من آي الكتاب " المتشابه " الحروف المقطعة التي في أوائل بعض سور القرآن من نحو " الم " و " المص " و " المر " و " الر " وما أشبه ذلك ، لأنهن متشابهات في الألفاظ ، وموافقات حروف حساب الجمل . وكان قوم من اليهود على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طمعوا أن يدركوا من قبلها معرفة مدة الإسلام وأهله ، ويعلموا نهاية أكل [ ص: 180 ] محمد وأمته ، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك ، وأعلمهم أن ما ابتغوا علمه من ذلك من قبل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها ، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله .
قال أبو جعفر : وهذا قول ذكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب : أن هذه الآية نزلت فيه ، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته ، في تأويل ذلك في تفسير قوله : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه ) [ سورة البقرة : 2 ]
قال أبو جعفر : وهذا القول الذي ذكرناه عن أشبه بتأويل الآية . وذلك أن جابر بن عبد الله وغير جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه ، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجة ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل . فإذ كان ذلك كذلك ، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة ، وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى [ وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة ] وذلك [ ص: 181 ] كقول الله - عز وجل - : ( جميع ما أنزل الله - عز وجل - من آي القرآن على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فإنما أنزله عليه بيانا له ولأمته وهدى للعالمين ، يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) [ سورة الأنعام : 158 ] ، فأعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته أن تلك الآية التي أخبر الله - جل ثناؤه - عباده أنها إذا جاءت لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك ، هي طلوع الشمس من مغربها . فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك هو العلم منهم بوقت نفع التوبة بصفته ، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام . فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب ، وأوضحه لهم على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - مفسرا . والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه ، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية ، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا . وذلك هو العلم الذي استأثر الله - جل ثناؤه - به دون خلقه ، فحجبه عنهم . وذلك وما أشبهه ، هو المعنى الذي طلبت اليهود معرفته في مدة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته من قبل قوله : " الم " و " المص " و " الر " و " المر " ونحو ذلك من الحروف المقطعة المتشابهات التي أخبر الله - جل ثناؤه - أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله ، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله .
فإذ كان المتشابه هو ما وصفنا ، فكل ما عداه فمحكم ؛ لأنه لن يخلو من أن يكون محكما بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد ، وقد استغنى بسماعه عن بيان يبينه أو يكون محكما ، وإن كان ذا وجوه وتأويلات وتصرف في [ ص: 182 ] معان كثيرة . فالدلالة على المعنى المراد منه ، إما من بيان الله - تعالى ذكره - عنه ، أو بيان رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأمته . ولن يذهب علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بينا .