فنادته الملائكة ) القول في تأويل قوله (
قال أبو جعفر : اختلفت القرأة في قراءة ذلك .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة : " فنادته الملائكة " على التأنيث بالتاء ، يراد بها : جمع " الملائكة " . وكذلك تفعل العرب في جماعة الذكور إذا تقدمت أفعالها ، أنثت أفعالها ، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث ، كقولهم : جاءت الطلحات " .
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء ، بمعنى فناداه جبريل ، فذكروه للتأويل ، كما قد ذكرنا آنفا أنهم يؤنثون فعل الذكر للفظ ، فكذلك يذكرون [ ص: 364 ] فعل المؤنث أيضا للفظ . واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءة يذكر أنها قراءة وهو ما : - عبد الله بن مسعود ،
6945 - حدثني به المثنى قال : حدثنا إسحاق بن الحجاج قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، أن قراءة ابن مسعود : ( فناداه جبريل وهو قائم يصلي في المحراب ) .
وكذلك تأول قوله : " فنادته الملائكة " جماعة من أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
6946 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : " فنادته الملائكة " وهو السدي جبريل أو : قالت الملائكة ، وهو جبريل " أن الله يبشرك بيحيى " .
قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل : " فنادته الملائكة " و " الملائكة " جمع لا واحد ؟ قيل : ذلك جائز في كلام العرب ، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع ، كما يقال في الكلام : " خرج فلان على بغال البرد " وإنما ركب بغلا واحدا " وركب السفن " وإنما ركب سفينة واحدة . وكما يقال : " ممن سمعت هذا الخبر " ؟ فيقال : " من الناس " وإنما سمعه من رجل واحد . وقد قيل إن منه قوله : ( الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ) [ سورة آل عمران : 173 ] ، والقائل كان فيما كان ذكر - واحدا وقوله : ( وإذا مس الناس ضر ) [ ص: 365 ] [ سورة الروم : 33 ] ، والناس بمعنى واحد . وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد .
قال أبو جعفر : وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك ، أنهما قراءتان معروفتان أعني " التاء " و " الياء " فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب . وذلك أنه لا اختلاف في معنى ذلك باختلاف القراءتين ، وهما جميعا فصيحتان عند العرب ، وذلك أن " الملائكة " إن كان مرادا بها جبريل ، كما روي عن عبد الله ، فإن التأنيث في فعلها فصيح في كلام العرب للفظها ، إن تقدمها الفعل . وجائز فيه التذكير لمعناها .
وإن كان مرادا بها جمع " الملائكة " فجائز في فعلها التأنيث ، وهو من قبلها ، للفظها . وذلك أن العرب إذا قدمت على الكثير من الجماعة فعلها ، أنثته ، فقالت : " قالت النساء " . وجائز التذكير في فعلها ، بناء على الواحد ، إذا تقدم فعله ، فيقال : " قال الرجال " .
وأما الصواب من القول في تأويله ، فأن يقال : إن الله - جل ثناؤه - أخبر أن الملائكة نادته . والظاهر من ذلك ، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد ، وجبريل واحد .
ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب ، دون الأقل ما وجد إلى ذلك سبيل . ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد ، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني .
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم ، منهم : قتادة ، والربيع [ ص: 366 ] بن أنس ، وعكرمة ، ومجاهد ، وجماعة غيرهم . وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مضى .