عمر بن مدرك : حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا أشعث بن شعبة المصيصي ، قال : قدم الرشيد الرقة ، فانجفل الناس خلف ابن المبارك ، وتقطعت النعال ، وارتفعت الغبرة ، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب ، فقالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان ، قدم . قالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط وأعوان .
قال : حدثنا عثمان بن خرزاذ محمد بن حيان ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد الجهضمي ، قال : قال الأوزاعي : رأيت ابن المبارك ؟ قلت : لا . قال : لو رأيته لقرت عينك . وقال عبد العزيز بن أبي رزمة : قال لي شعبة : ما قدم علينا من ناحيتكم مثل ابن المبارك .
الدغولي : حدثنا عبد المجيد بن إبراهيم ، حدثنا وهب بن زمعة ، حدثنا معاذ بن خالد ، قال : تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك ، فقال إسماعيل : ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك ، ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك . ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة ، فكان يطعمهم [ ص: 385 ] الخبيص ، وهو الدهر صائم .
قال : أخبرني الحاكم محمد بن أحمد بن عمر ، حدثنا محمد بن المنذر ، حدثني عمر بن سعيد الطائي ، حدثنا عمر بن حفص الصوفي بمنبج ، قال : خرج ابن المبارك من بغداد ، يريد المصيصة ، فصحبه الصوفية ، فقال لهم : أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم . يا غلام هات الطست ، فألقى عليه منديلا ، ثم قال : يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه ، فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم ، والرجل يلقي عشرين ، فأنفق عليهم إلى المصيصة ، ثم قال : هذه بلاد نفير . فنقسم ما بقي ، فجعل يعطي الرجل عشرين دينارا ، فيقول : يا أبا عبد الرحمن ، إنما أعطيت عشرين درهما ، فيقول : وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته .
قال الخطيب : أخبرنا عمر بن إبراهيم ، وأبو محمد الخلال ، قالوا : حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الكاتب ، حدثنا أحمد بن الحسن المقرئ ، سمعت عبد الله بن أحمد الدورقي ، سمعت محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، سمعت أبي قال : كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج ، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو ، فيقولون : نصحبك ، فيقول : هاتوا نفقاتكم ، فيأخذ نفقاتهم ، فيجعلها في صندوق ، ويقفل عليها ، ثم يكتري لهم ، ويخرجهم من مرو إلى بغداد ، فلا يزال ينفق عليهم ، ويطعمهم أطيب الطعام ، وأطيب الحلوى ، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة ، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول -صلى الله عليه وسلم - فيقول لكل واحد : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها ؟ فيقول : كذا وكذا ، ثم [ ص: 386 ] يخرجهم إلى مكة ، فإذا قضوا حجهم ، قال لكل واحد منهم : ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟ فيقول : كذا وكذا ، فيشتري لهم ، ثم يخرجهم من مكة ، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو ، فيجصص بيوتهم وأبوابهم ، فإذا كان بعد ثلاثة أيام ، عمل لهم وليمة وكساهم ، فإذا أكلوا وسروا ، دعا بالصندوق ، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته ، عليها اسمه .
قال أبي : أخبرني خادمه أنه عمل آخر سفرة سافرها دعوة ، فقدم إلى الناس خمسة وعشرين خوانا فالوذج . فبلغنا أنه قال للفضيل : لولاك وأصحابك ما اتجرت . وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم .
علي بن خشرم : حدثني سلمة بن سليمان قال : جاء رجل إلى ابن المبارك ، فسأله أن يقضي دينا عليه ، فكتب له إلى وكيل له ، فلما ورد عليه الكتاب ، قال له الوكيل : كم الدين الذي سألته قضاءه ؟ قال : سبع مائة درهم ، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم ، فراجعه الوكيل ، وقال : إن الغلات قد فنيت ، فكتب إليه عبد الله : إن كانت الغلات قد فنيت ، فإن العمر أيضا قد فني ، فأجز له ما سبق به قلمي .
قال محمد بن المنذر : حدثني يعقوب بن إسحاق ، حدثني محمد بن عيسى ، قال : كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس ، وكان ينزل الرقة في خان ، فكان شاب يختلف إليه ، ويقوم بحوائجه ، ويسمع منه الحديث ، فقدم عبد الله مرة ، فلم يره ، فخرج في النفير مستعجلا ، فلما [ ص: 387 ] رجع ، سأل عن الشاب ، فقال : محبوس على عشرة آلاف درهم ، فاستدل على الغريم ، ووزن له عشرة آلاف ، وحلفه ألا يخبر أحدا ما عاش ، فأخرج الرجل ، وسرى ابن المبارك ، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة ، فقال لي : يا فتى ، أين كنت ؟ لم أرك . قال : يا أبا عبد الرحمن كنت محبوسا بدين . قال : وكيف خلصت ؟ قال : جاء رجل ، فقضى ديني ، ولم أدر . قال : فاحمد الله . ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله .