الخليفة أبو جعفر ، وأبو القاسم هارون بن المعتصم بالله أبي إسحاق محمد ، بن هارون الرشيد ، بن المهدي محمد ، بن المنصور العباسي البغدادي ، وأمه رومية اسمها " قراطيس " أدركت خلافته .
[ ص: 307 ] ولي الأمر بعهد من أبيه في سنة 227 .
وكان مولده في شعبان سنة ست وتسعين ومائة .
قال : ما أحسن أحد إلى الطالبيين ما أحسن إليهم يحيى بن أكثم الواثق ، ما مات وفيهم فقير .
وقال حمدون بن إسماعيل : كان الواثق مليح الشعر ، وكان يحب مولى أهداه له من مصر شخص ، فأغضبه ، فحرد ، حتى قال لبعض الخدم : والله إن مولاي ليروم أن أكلمه من أمس ، فما أفعل ، فعمل الواثق :
يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ما أنت إلا مليك جار إذ قدرا لولا الهوى لتجازينا على قدر
وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى
قال الخطيب : استولى أحمد بن أبي دؤاد على الواثق ، وحمله على التشدد في المحنة ، والدعاء إلى خلق القرآن .
وقيل : إنه رجع عن ذلك قبيل موته .
قال عبيد الله بن يحيى : حدثنا إبراهيم بن أسباط ، قال : حمل رجل مقيد ، فأدخل على بحضور ابن أبي دؤاد الواثق ، فقال لأحمد : [ ص: 308 ] أخبرني عن ما دعوتم الناس إليه ، أعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما دعا إليه ، أم شيء لم يعلمه ؟ قال : بل علمه . قال : فكان يسعه أن لا يدعو الناس إليه ، وأنتم لا يسعكم ؟ ! فبهتوا ، وضحك الواثق ، وقام قابضا على فمه ، ودخل مجلسا ، ومد رجليه وهو يقول : أمر وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يسكت عنه ولا يسعنا ! ثم أمر أن يعطى الشيخ ثلاثمائة دينار ، وأن يرد إلى بلده .
وعن طاهر بن خلف قال : سمعت المهتدي بالله بن الواثق يقول : كان أبي إذا أراد أن يقتل رجلا ، أحضرنا ، قال : فأتي بشيخ مخضوب مقيد ، فقال أبي : ائذنوا وأصحابه ، وأدخل الشيخ ، فقال : السلام عليكم يا أمير المؤمنين ، فقال : لا سلم الله عليك ، قال : بئس ما أدبك مؤدبك ، قال الله تعالى : لأحمد بن أبي دؤاد وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها . فقال أحمد : الرجل متكلم . قال : كلمه . فقال : يا شيخ ، ما تقول في القرآن ؟ قال : لم تنصفني ولي السؤال ، قال : سل . قال : ما تقول أنت ؟ قال : مخلوق . قال : هذا شيء علمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر والخلفاء ، أم لم يعلموه ؟ فقال : شيء لم يعلموه ، قال : سبحان الله ، شيء لم يعلموه وعلمته أنت ؟ ! فخجل ، وقال : أقلني . قال : المسألة بحالها ، ما تقول في القرآن ؟ قال : مخلوق ، قال : شيء علمه رسول الله ؟ قال : علمه ، قال : أعلمه ولم يدع الناس إليه ؟ قال : نعم . قال : فوسعه ذلك ؟ قال : نعم . قال : أفلا وسعك ما وسعه ، ووسع الخلفاء بعده ؟ فقام الواثق ، فدخل الخلوة ، [ ص: 309 ] واستلقى وهو يقول : شيء لم يعلمه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ولا أبو بكر ، ولا عمر ، ولا عثمان ، ولا علي ، علمته أنت ! سبحان الله ، عرفوه ، ولم يدعوا إليه الناس ! فهلا وسعك ما وسعهم ! ثم أمر برفع قيد الشيخ ، وأمر له بأربعمائة دينار ، وسقط من عينه ، ولم يمتحن بعدها أحدا . ابن أبي دؤاد
في إسنادها مجاهيل ، فالله أعلم بصحتها .
وروى نحوا منها أحمد بن السندي الحداد ، عن أحمد بن الممتنع ، عن صالح بن علي الهاشمي ، عن . قال المهتدي بالله صالح : حضرته وقد جلس ، والقصص تقرأ عليه ، ويأمر بالتوقيع عليها ، فسرني ذلك ، وجعلت أنظر إليه ، ففطن ، ونظر إلي ، فغضضت عنه ، قال : فقال لي : في نفسك شيء تحب أن تقوله ، فلما انفض المجلس ، أدخلت مجلسه ، فقال : تقول ما دار في نفسك ، أو أقوله لك ؟ قلت : يا أمير المؤمنين ، ما ترى ؟ قال : أقول : إنه قد استحسنت ما رأيت منا ، فقلت في نفسك : أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول : القرآن مخلوق . قال : فورد علي أمر عظيم ، ثم قلت : يا نفس ، هل تموتين قبل أجلك ؟ ! فقلت : نعم ، فأطرق ، ثم قال : اسمع ، فوالله لتسمعن الحق ، فسري عني ، وقلت : ومن أولى بالحق منك وأنت خليفة رب العالمين ؟ قال : ما زلت أقول : القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق حتى أقدم شيخا من أذنة ، فأدخل مقيدا ، وهو شيخ جميل ، حسن الشيبة ، فرأيت الواثق قد استحيا منه ، ورق له ، فما زال يدنيه حتى قرب [ ص: 310 ] منه ، وجلس ، فقال : ناظر ، قال : يا أمير المؤمنين ، إنه يضعف عن المناظرة ، فغضب وقال : ابن أبي دؤاد أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت ؟ قال : هون عليك ، وائذن لي ، واحفظ علي وعليه . ثم قال : يا أحمد ، أخبرني عن مقالتك هذه ، هي مقالة واجبة داخلة في عقد الدين ، فلا يكون الدين كاملا حتى تقال ؟ قال : نعم . قال : فأخبرني عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بعثه الله ، هل ستر شيئا مما أمر به ؟ قال : لا ، قال : فدعا إلى مقالتك هذه ؟ فسكت ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، واحدة . قال الواثق : واحدة . ثم قال : أخبرني عن الله - تعالى - حين قال : اليوم أكملت لكم دينكم أكان الله هو الصادق في إكمال ديننا ، أو أنت الصادق في نقصانه حتى يقال بمقالتك ؟ فسكت أحمد ، فقال الشيخ : اثنتان يا أمير المؤمنين ، قال : نعم . فقال : أخبرني عن مقالتك هذه ، أعلمها رسول الله أم جهلها ؟ قال : علمها ، قال : فدعا إليها ؟ فسكت ، قال الشيخ : ثلاثة ، ثم قال : فاتسع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يمسك عنها ، ولم يطالب أمته بها ؟ قال : نعم ، قال : واتسع ذلك لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ قال : نعم . فأعرض الشيخ عنه ، وقال : يا أمير المؤمنين ، قد قدمت القول بأن أحمد يضعف عن المناظرة ، يا أمير المؤمنين ، إن لم يتسع لك من الإمساك عن هذه المقالة ما زعم هذا أنه اتسع للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، فلا وسع الله عليك ، قال الواثق : نعم ، كذا هو ، اقطعوا قيد الشيخ ، فلما قطعوه ، ضرب بيده ، فأخذه ، فقال الواثق : لم أخذته ؟ قال : لأني نويت أن أوصي أن يجعل معي في كفني لأخاصم هذا به عند الله ، ثم بكى ، فبكى الواثق ، وبكينا ، ثم سأله الواثق أن يحاله ، وأمر له بصلة ، فقال : لا حاجة لي بها . ثم قال المهتدي : فرجعت عن هذه المقالة ، وأظن الواثق رجع عنها في يومئذ .
[ ص: 311 ] قال إبراهيم نفطويه : حدثنا حامد بن العباس ، عن رجل ، عن أن المهتدي بالله الواثق مات وقد تاب عن القول بخلق القرآن .
قال ابن أبي الدنيا : كان أبيض تعلوه صفرة ، حسن اللحية ، في عينه نكتة .
قلت : وكان وافر الأدب . قيل : إن جارية غنته شعر العرجي
أظلوم إن مصابكم رجلا رد السلام تحية ظلم
فقالت : هكذا لقنني المازني ، فطلب المازني ، فلما مثل بين يديه ، قال : ممن الرجل ؟ قال : من مازن ، قال : أي الموازن ، أمازن تميم ، أم مازن قيس ، أم مازن ربيعة ؟ قلت : مازن ربيعة ، فكلمني حينئذ بلغة قومي ، فقال : با اسمك ؟ - لأنهم يقلبون الميم باء ، والباء ميما - فكرهت أن أواجهه ب " مكر " ، فقلت : بكر يا أمير المؤمنين ، ففطن لها وأعجبته . قال : ما تقول في هذا البيت ؟ قلت : الوجه النصب ، لأن " مصابكم " مصدر بمعنى " إصابتكم " فعارضني ابن اليزيدي ، قلت : هو بمنزلة : إن [ ص: 312 ] ضربك زيدا ظلم ، فالرجل مفعول " مصابكم " ، والكلام معلق إلى أن تقول " ظلم " ، فيتم الكلام . فأعجب الواثق ، وأعطاني ألف دينار .
قيل : إن الواثق كان ذا نهمة بالجماع بحيث إنه أكل لحم سبع لذلك ، فولد له مرضا صعبا كان فيه حتفه .
وفي العام الثاني من دولته قدم مولاه أشناس على القواد ، وألبسه تاجا ، ووشاحين مجوهرين .
وفي سنة تسع وعشرين : صادر الدواوين ، وضرب أحمد بن أبي إسرائيل ، وأخذ منه ثمانمائة ألف دينار ، ومن سليمان بن وهب أربعمائة ألف دينار ، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكاتبه ألف ألف دينار .
وفي سنة إحدى وثلاثين : قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد ظلما ، وأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن ، وافتك من أسر الروم أربعة آلاف وستمائة نفس ، فقال : من لم يقل : القرآن مخلوق ، فلا تفتكوه . ابن أبي دؤاد
وفيها جاء المجوس الأردمانيون في مراكب من ساحل البحر الأعظم ، [ ص: 313 ] فدخلوا إشبيلية بالسيف ، ولم يكن لها سور بعد ، فجهز لحربهم أمير الأندلس عبد الرحمن المرواني جيشا ، فالتقوا ، فانهزم الأردمانيون ، وأسر منهم أربعة آلاف ولله الحمد .
قال زرقان بن أبي دؤاد : لما احتضر الواثق ، ردد هذين البيتين :
الموت فيه جميع الخلق مشترك لا سوقة منهم يبقى ولا ملك
ما ضر أهل قليل في تفرقهم وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا
وروى أحمد بن محمد الواثقي أمير البصرة ، عن أبيه ، قال : كنت أمرض الواثق ، فلحقته غشية ، فما شككنا أنه مات ، فقال بعضنا لبعض : تقدموا ، فما جسر أحد سواي ، فلما أن أردت أن أضع يدي على أنفه ، فتح عينيه ، فرعبت ، ورجعت إلى خلف ، فتعلقت قبيعة سيفي بالعتبة ، فعثرت ، واندق السيف ، وكاد أن يجرحني ، واستدعيت سيفا ، وجئت ، فوقفت ساعة ، فتلف الرجل ، فشددت لحييه وغمضته وسجيته ، وأخذ الفراشون ما تحته ليردوه إلى الخزائن ، وترك وحده ، فقال : إنا نريد أن نتشاغل بعقد البيعة ، فاحفظه ، فرددت باب المجلس ، وجلست عند الباب ، فحسست بعد ساعة بحركة أفزعتني ، فأدخل ، فإذا بجرذون قد استل عين ابن أبي دؤاد الواثق فأكلها ، فقلت : لا إله إلا الله ، هذه العين التي فتحها من [ ص: 314 ] ساعة ، فاندق سيفي هيبة لها !
قلت : كانت خلافته خمس سنين ونصفا ، مات بسامرا لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وبايعوا بعده أخاه المتوكل .