قال : حدثني بعض أصحابنا أن محمد بن إبراهيم البوشنجي أحمد بن أبي دواد أقبل على أحمد يكلمه ، فلم يلتفت إليه ، حتى قال المعتصم : يا أحمد ألا تكلم أبا عبد الله ؟ فقلت : لست أعرفه من أهل العلم فأكلمه! !
قال صالح : وجعل ابن أبي دواد يقول : يا أمير المؤمنين ، والله لئن أجابك لهو أحب إلي من مائة ألف دينار ، ومائة ألف دينار ، فيعد من ذلك ما شاء الله أن يعد . فقال : لئن أجابني لأطلقكن عنه بيدي ، ولأركبن إليه بجندي ، ولأطأن عقبه .
ثم قال : يا أحمد ، والله إني عليك لشفيق ، وإني لأشفق عليك [ ص: 248 ] كشفقتي على ابني هارون ، ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله .
فلما طال المجلس ، ضجر وقال : قوموا ، وحبسني - يعني عنده - وعبد الرحمن بن إسحاق يكلمني . وقال : ويحك ! أجبني . وقال : ويحك ! ألم تكن تأتينا ؟ فقال له عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين ، أعرفه منذ ثلاثين سنة ، يرى طاعتك والحج والجهاد معك . فيقول : والله إنه لعالم ، وإنه لفقيه . وما يسوءني أن يكون معي يرد عني أهل الملل . ثم قال : ما كنت تعرف صالحا الرشيدي ؟ قلت : قد سمعت به قال : كان مؤدبي ، وكان في ذلك الموضع جالسا ، وأشار إلى ناحية من الدار .
فسألني عن القرآن ، فخالفني ، فأمرت به فوطئ وسحب ! يا أحمد ، أجبني إلى شيء لك فيه أدنى فرج ، حتى أطلق عنك بيدي . قلت : أعطوني شيئا من كتاب الله وسنة رسوله . فطال المجلس ، وقام ، ورددت إلى الموضع .
فلما كان بعد المغرب ، وجه إلي رجلين من أصحاب ابن أبي دواد ، يبيتان عندي ويناظراني ويقيمان معي ، حتى إذا كان وقت الإفطار ، جيء بالطعام ، ويجتهدان بي أن أفطر فلا أفعل - قلت : وكانت ليالي رمضان -
قال : ووجه المعتصم إلي ابن أبي دواد في الليل ، فقال : يقول لك أمير المؤمنين : ما تقول ؟ فأرد عليه نحوا مما كنت أرد . فقال ابن أبي دواد : والله [ ص: 249 ] لقد كتب اسمك في السبعة : وغيره فمحوته . ولقد ساءني أخذهم إياك . ثم يقول : إن أمير المؤمنين قد حلف أن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يلقيك في موضع لا ترى فيه الشمس . ويقول : إن أجابني ، جئت إليه حتى أطلق عنه بيدي ، ثم انصرف . يحيى بن معين
فلما أصبحنا جاء رسوله ، فأخذ بيدي حتى ذهب بي إليه ، فقال لهم : ناظروه وكلموه ، فجعلوا يناظروني ، فأرد عليهم . فإذا جاءوا بشيء من الكلام مما ليس في الكتاب والسنة ، قلت : ما أدري ما هذا . قال : فيقولون : يا أمير المؤمنين ، إذا توجهت له الحجة علينا ، ثبت ، وإذا كلمناه بشيء ، يقول : لا أدري ما هذا ؟ فقال : ناظروه فقال رجل : يا أحمد ، أراك تذكر الحديث وتنتحله ، فقلت : ما تقول في قوله : يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ؟ قال : خص الله بها المؤمنين . قلت : ما تقول : إن كان قاتلا أو عبدا ؟ فسكت ، وإنما احتججت عليهم بهذا ; لأنهم كانوا يحتجون بظاهر القرآن . فحيث قال لي : أراك تنتحل الحديث ، احتججت بالقرآن ، يعني : وإن السنة خصصت القاتل والعبد ، فأخرجتهما من العموم . قال : فلم يزالوا كذلك إلى قرب الزوال . فلما ضجر ، قال : قوموا ، ثم خلا بي ، وبعبد الرحمن بن إسحاق ، فلم يزل يكلمني ، ثم قام ودخل . ورددت إلى الموضع .
قال : فلما كانت الليله الثالثة ، قلت : خليق أن يحدث غدا من أمري [ ص: 250 ] شيء فقلت للموكل بي : أريد خيطا فجاءني بخيط ، فشددت به الأقياد ، ورددت التكة إلى سراويلي مخافة أن يحدث من أمري شيء ، فأتعرى . فلما كان من الغد ، أدخلت إلى الدار ، فإذا هي غاصة ، فجعلت أدخل من موضع إلى موضع ، وقوم معهم السيوف ، وقوم معهم السياط ، وغير ذلك .
ولم يكن في اليومين الماضيين كبير أحد من هؤلاء . فلما انتهيت إليه ،
قال : اقعد . ثم قال : ناظروه ، كلموه . فجعلوا يناظروني ، يتكلم هذا ، فأرد عليه ، ويتكلم هذا ، فأرد عليه ، وجعل صوتي يعلو أصواتهم . فجعل بعض من هو قائم على رأسي يومئ إلي بيده ، فلما طال المجلس ، نحاني ، ثم خلا بهم ، ثم نحاهم ، وردني إلى عنده ، وقال : ويحك يا أحمد ! أجبني حتى أطلق عنك بيدي ، فرددت عليه نحو ردي . فقال : عليك ، وذكر اللعن ، خذوه اسحبوه خلعوه . فسحبت وخلعت .
قال : وقد كان صار إلي شعر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كم قميصي ، فوجه إلي إسحاق بن إبراهيم يقول : ما هذا المصرور ؟ قلت : شعر من شعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسعى بعضهم ليخرق القميص عني ، فقال المعتصم : لا تخرقوه ، فنزع ، فظننت أنه إنما دريء عن القميص الخرق بالشعر . قال : وجلس المعتصم على كرسي ، ثم قال : العقابين والسياط ، فجيء بالعقابين ، فمدت يداي ، فقال بعض من حضر خلفي : خذ ناتئ الخشبتين بيديك ، وشد عليهما . فلم أفهم ما قال ، فتخلعت يداي . [ ص: 251 ]
قال : ذكروا أن محمد بن إبراهيم البوشنجي المعتصم ألان في أمر أحمد لما علق في العقابين ، ورأى ثباته وتصميمه وصلابته ، حتى أغراه أحمد بن أبي دواد ، وقال : يا أمير المؤمنين ، إن تركته ، قيل : قد ترك مذهب المأمون ، وسخط قوله ، فهاجه ذلك على ضربه .
وقال صالح : قال أبي : ولما جيء بالسياط ، نظر إليها المعتصم ، فقال : ائتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا ، فجعل يتقدم إلي الرجل منهم ، فيضربني سوطين ، فيقول له : شد ، قطع الله يدك ! ثم يتنحى ويتقدم آخر ، فيضربني سوطين ، وهو يقول في كل ذلك : شد ، قطع الله يدك! فلما ضربت سبعة عشر سوطا ، قام إلي ، يعني : المعتصم ، فقال : يا أحمد ، علام تقتل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق ، وجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه ، وقال : أتريد أن تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! إمامك على رأسك قائم . وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين ، دمه في عنقي ، اقتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين ، أنت صائم ، وأنت في الشمس قائم ! فقال لي : ويحك يا أحمد ، ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئا من كتاب الله أو سنة رسول الله أقول به . . فرجع وجلس . وقال للجلاد : تقدم ، وأوجع ، قطع الله يدك ، ثم قام الثانية ، وجعل يقول : ويحك يا أحمد : أجبني . فجعلوا يقبلون علي ، ويقولون : يا أحمد ، إمامك على رأسك قائم ! وجعل عبد الرحمن يقول : من صنع من أصحابك في هذا الأمر ما تصنع ؟ والمعتصم يقول : أجبني إلى شيء لك [ ص: 252 ] فيه أدنى فرج حتى أطلق عنك بيدي ، ثم رجع ، وقال للجلاد : تقدم ، فجعل يضربني سوطين ويتنحى ، وهو في خلال ذلك يقول : شد ، قطع الله يدك .
فذهب عقلي ، ثم أفقت بعد ، فإذا الأقياد قد أطلقت عني . فقال لي رجل ممن حضر : كببناك على وجهك ، وطرحنا على ظهرك بارية ودسناك ! قال أبي فما شعرت بذلك ، وأتوني بسويق ، وقالوا : اشرب وتقيأ ، فقلت : لا أفطر . ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فحضرت الظهر ، فتقدم ابن سماعة ، فصلى . فلما انفتل من صلاته ، وقال لي : صليت ، والدم يسيل في ثوبك ؟ قلت : قد صلى عمر ، وجرحه يثعب دما .
قال صالح : ثم خلي عنه ، فصار إلى منزله . وكان مكثه في السجن منذ أخذ إلى أن ضرب وخلي عنه ، ثمانية وعشرين شهرا . ولقد حدثني أحد الرجلين اللذين كانا معه ، قال : يا ابن أخي ، رحمة الله على أبي عبد الله ، والله ما رأيت أحدا يشبهه ، ولقد جعلت أقول له في وقت ما يوجه إلينا بالطعام : يا أبا عبد الله ، أنت صائم ، وأنت في موضع تفئة . ولقد [ ص: 253 ] عطش ، فقال لصاحب الشراب : ناولني ، فناوله قدحا فيه ماء وثلج ، فأخذه ونظر فيه ، ثم رده ، ولم يشرب ، فجعلت أعجب من صبره على الجوع والعطش ، وهو فيما هو فيه من الهول !
قال صالح : فكنت ألتمس وأحتال أن أوصل إليه طعاما أو رغيفا في تلك الأيام ، فلم أقدر . وأخبرني رجل حضره : أنه تفقده في الأيام الثلاثة وهم يناظرونه ، فما لحن في كلمة . قال : وما ظننت أن أحدا يكون في مثل شجاعته وشدة قلبه .
قال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : ذهب عقلي مرارا ، فكان إذا رفع عني الضرب ، رجعت إلي نفسي . وإذا استرخيت وسقطت ، رفع الضرب ، أصابني ذلك مرارا . ورأيته ، يعني : المعتصم ، قاعدا في الشمس بغير مظلة ، فسمعته ، وقد أفقت يقول لابن أبي دواد ، لقد ارتكبت إثما في أمر هذا الرجل . فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه - والله - كافر مشرك ، قد أشرك من غير وجه . فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد . وقد كان أراد تخليتي بلا ضرب ، فلم يدعه ، ولا إسحاق بن إبراهيم .
قال حنبل : وبلغني أن المعتصم ، قال لابن أبي دواد بعدما ضرب أبو عبد الله : كم ضرب ؟ قال : أربعة أو نيفا وثلاثين سوطا .
قال أبو الفضل عبيد الله الزهري : قال المروذي : قلت ، وأبو عبد الله بين الهنبازين يا أستاذ ، قال الله تعالى : ولا تقتلوا أنفسكم قال : يا مروذي ، اخرج وانظر . فخرجت إلى رحبة دار [ ص: 254 ] الخلافة ، فرأيت خلقا لا يحصيهم إلا الله ، والصحف في أيديهم ، والأقلام والمحابر . فقال لهم المروذي : ماذا تعملون ؟ قالوا : ننظر ما يقول أحمد ، فنكتبه . فدخل فأخبره . فقال : يا مروذي ، أضل هؤلاء كلهم ؟! فهذه حكاية منقطعة .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن الفضل الأسدي ،
قال : لما حمل أحمد ليضرب ، جاءوا إلى بشر بن الحارث ، وقالوا : قد وجب عليك أن تتكلم . فقال : أتريدون مني أقوم مقام الأنبياء ، ليس ذا عندي . حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه .
الحسن بن محمد بن عثمان الفسوي : حدثنا داود بن عرفة ، حدثنا ميمون بن أصبغ قال : كنت ببغداد وامتحن أحمد . فأخذت مالا له خطر ، فذهبت به إلى من يدخلني إلى المجلس . فأدخلت ، فإذا السيوف قد جردت ، وبالرماح قد ركزت ، وبالتراس قد صففت ، وبالسياط قد وضعت . وألبست قباء أسود ومنطقة وسيفا . ووقفت حيث أسمع الكلام . فأتى أمير المؤمنين ، فجلس على كرسي . وأتي بأحمد ، فقال [ ص: 255 ] له : وقرابتي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأضربنك بالسياط ، أو تقول كما أقول .
ثم التفت إلى جلاد ، فقال : خذه إليك ، فأخذه ، فلما ضرب سوطا ،
قال : باسم الله ، فلما ضرب الثاني ، قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما ضرب الثالث ، قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلما ضرب الرابع ، قال : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا فضرب تسعة وعشرين سوطا . وكانت تكته حاشية ثوب ، فانقطعت ، فنزل السراويل إلى عانته . فقلت : الساعة ينهتك ، فرمى بطرفه إلى السماء ، وحرك شفتيه ، فما كان بأسرع من أن بقي السراويل لم ينزل . فدخلت عليه بعد سبعة أيام ، فقلت : يا أبا عبد الله ! رأيتك وقد انحل سراويلك ، فرفعت طرفك نحو السماء ، فما قلت ؟ قال : قلت : اللهم أسألك باسمك الذي ملأت به العرش ، إن كنت تعلم أني على الصواب ، فلا تهتك لي سترا .
هذه حكاية منكرة ، أخاف أن يكون داود وضعها .
قال جعفر بن أحمد بن فارس الأصبهاني : حدثنا أحمد بن أبي عبيد الله قال : قال أحمد بن الفرج : حضرت لما ضرب ، فتقدم أحمد بن حنبل أبو الدن فضربه بضعة عشر سوطا ، فأقبل الدم من أكتافه ، وكان عليه سراويل ، فانقطع خيطه ، فنزل . فلحظته وقد حرك شفتيه ، فعاد السراويل كما كان . فسألته ، قال : قلت : إلهي وسيدي ، وقفتني هذا الموقف ، فتهتكني على رءوس الخلائق !
وهذه الحكاية لا تصح . وقد ساق صاحب " الحلية " من الخرافات السمجة هنا ما يستحيا من ذكره . [ ص: 256 ] فمن ذلك قال : حدثنا الحسين بن محمد ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القاضي ، حدثني أبو عبد الله الجوهري ، حدثنا يوسف بن يعقوب ، سمعت علي بن محمد القرشي قال : لما جرد أحمد ليضرب ، وبقي في سراويله ، فبينا هو يضرب ، انحل سراويله ، فحرك شفتيه ، فرأيت يدين خرجتا من تحته ، فشدتا السراويل . فلما فرغوا من الضرب ، سألناه .
قال : فقلت : يا من لا يعلم العرش منه أين هو إلا هو ، إن كنت على الحق ، فلا تبد عورتي .
أوردها في مناقب البيهقي أحمد ، وما جسر على توهيتها ، بل ، روى عن أبي مسعود البجلي ، عن ابن جهضم ذاك الكذاب : حدثنا ، حدثنا أبو بكر النجاد ابن أبي العوام الرياحي نحوا منها . وفيها أن مئزره اضطرب ، فحرك شفتيه ، فرأيت كفا من ذهب خرح من تحت مئزره بقدرة الله ، فصاحت العامة .
أخبرني ابن الفراء ، حدثنا ابن قدامة ، حدثنا ابن خضير ، حدثنا ابن يوسف ، حدثنا البرمكي ، حدثنا علي بن مردك ، حدثنا ابن أبي حاتم ، حدثنا أحمد بن سنان : أنه بلغه ، أن المعتصم نظر عند ضربه إياه إلى شيء مصرور في كمه ، فقال : أي شيء هذا ؟ قال : شعر من شعر النبي صلى الله عليه وسلم .
قال : هاته ، وأخذها منه . ثم قال أحمد بن سنان : كان ينبغي أن يرحمه عندما رأى شعرة من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - معه في تلك الحال . وبه قال ابن أبي حاتم : قال أبو الفضل صالح : خلي عنه ، فصار إلى المنزل ، ووجه إلى المطبق . فجيء برجل ممن يبصر الضرب والعلاج ، فنظر إلى ضربه ، فقال قد رأيت من ضرب ألف سوط ، ما رأيت ضربا مثل هذا . لقد جر عليه من خلفه ، ومن قدامه ، ثم أخذ ميلا ، فأدخله في بعض [ ص: 257 ] تلك الجراحات . فنظر إليه فقال : لم ينقب ؟ وجعل يأتيه ويعالجه . وكان قد أصاب وجهه غير ضربة . ومكث منكبا على وجهه كم شاء الله . ثم قال له : إن هاهنا شيئا أريد أن أقطعه ، فجاء بحديدة ، فجعل يعلق اللحم بها ، فيقطعه بسكين معه ، وهو صابر لذلك ، يجهر بحمد الله في ذلك ، فبرأ منه .
ولم يزل يتوجع من مواضع منه ، وكان أثر الضرب بينا في ظهره إلى أن توفي .
ودخلت يوما ، فقلت له : بلغني أن رجلا جاء إليك ، فقال : اجعلني في حل إذ لم أقم بنصرتك . فقلت : لا أجعل أحدا في حل ، فتبسم أبي وسكت . وسمعت أبي يقول : لقد جعلت الميت في حل من ضربه إياي . ثم قال : مررت بهذه الآية : فمن عفا وأصلح فأجره على الله فنظرت في تفسيرها ، فإذا هو ما أخبرنا ، أخبرنا هاشم بن القاسم المبارك بن فضالة قال : أخبرني من سمع الحسن يقول : إذا كان يوم القيامة ، جثت الأمم كلها بين يدي الله رب العالمين ، ثم نودي أن لا يقوم إلا من أجره على الله ، فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا . قال : فجعلت الميت في حل . ثم قال : وما على رجل أن لا يعذب الله بسببه أحدا .
وبه قال ابن أبي حاتم : حدثني أحمد بن سنان قال : بلغني أن ، جعل أحمد بن حنبل المعتصم في حل يوم فتح عاصمة بابك وظفر به ، أو في [ ص: 258 ] فتح عمورية ، فقال : هو في حل من ضربي . وسمعت أبي أبا حاتم يقول : أتيت أبا عبد الله بعدما ضرب بثلاث سنين أو نحوها ، فجرى ذكر الضرب ، فقلت له : ذهب عنك ألم الضرب ؟ فأخرج يديه وقبض كوعيه اليمين واليسار ، وقال : هذا ، كأنه يقول : خلع وإنه يجد منهما ألم ذلك .
وبه قال ابن أبي حاتم : حدثنا صاحب محمد بن المثنى بشر قال : قال : قيل لي : اكتب ثلاث كلمات ، ويخلى سبيلك فقلت : هاتوا ، قالوا : اكتب : الله قديم لم يزل . قال : فكتبت . فقالوا : اكتب : كل شيء دون الله مخلوق . وقالوا : اكتب : الله رب القرآن . أحمد بن حنبل
قلت : أما هذه فلا ، ورميت بالقلم . فقال بشر بن الحارث : لو كتبها ، لأعطاهم ما يريدون .
وبه قال : وقال إبراهيم بن الحارث العبادي - وكان رافقنا في بلاد الروم - قال : حضر أحمد بن حنبل أبو محمد الطفاوي ، فذكر له حديث ، فقال أبو عبد الله : أخبرك بنظير هذا ، لما أخرج بنا ، جعلت أفكر فيما نحن [ ص: 259 ] فيه ، حتى إذا صرنا إلى الرحبة ، أنزلنا بظاهرها ، فمددت بصري ، فإذا بشيء لم أستثبته ، فلم يزل يدنو ، وإذا أعرابي جعل يتخطى تلك المحامل حتى صار إلي ، فوقف علي ، فسلم ، ثم قال : أنت ؟ فسكت تعجبا !! ثم أعاد ، فسكت . فبرك على ركبتيه ، فقال : أنت أحمد بن حنبل أبو عبد الله ؟ فقلت نعم . فقال : أبشر واصبر ، فإنما هي ضربة هاهنا ، وتدخل الجنة هاهنا . ثم مضى . أحمد بن حنبل
فقال الطفاوي : يا أبا عبد الله ! إنك محمود عند العامة ، فقال : أحمد الله على ديني ، إنما هذا دين ، لو قلت لهم ، كفرت . فقال الطفاوي : أخبرني بما صنعوا بك ؟ قال : لما ضربت بالسياط ، جعلت أذكر كلام الأعرابي ، ثم جاء ذاك الطويل اللحية - يعني : عجيفا - فضربني بقائم السيف . ثم جاء ذاك ، فقلت : قد جاء الفرج ، يضرب عنقي ، فأستريح .
فقال له ابن سماعة : يا أمير المؤمنين : اضرب عنقه ودمه في رقبتي . فقال ابن أبي دواد : لا يا أمير المؤمنين ، لا تفعل . فإنه إن قتل أو مات في دارك ، قال الناس : صبر حتى قتل ، فاتخذه الناس إماما ، وثبتوا على ما هم عليه ، ولكن أطلقه الساعة ، فإن مات خارجا من منزلك ، شك الناس في أمره . وقال بعضهم : أجاب ، وقال بعضهم : لم يجب . فقال الطفاوي : وما عليك لو قلت ؟ قال أبو عبد الله : لو قلت ، لكفرت .
وبه قال ابن أبي حاتم : سمعت أبا زرعة يقول : دعا المعتصم بعم أحمد ، ثم قال للناس : تعرفونه ؟ قالوا : نعم ، هو . قال : فانظروا إليه ، أليس هو صحيح البدن ؟ قالوا : نعم . ولولا أنه فعل ذلك ، لكنت أخاف أن يقع شيء لا يقام له . قال : ولما قال : قد سلمته إليكم صحيح البدن ، هدأ الناس وسكنوا . [ ص: 260 ] أحمد بن حنبل
قلت : ما قال هذا مع تمكنه في الخلافة وشجاعته إلا عن أمر كبير ، كأنه خاف أن يموت من الضرب ، فتخرج عليه العامة . ولو خرج عليه عامة بغداد لربما عجز عنهم .
وقال حنبل : لما أمر المعتصم بتخلية أبي عبد الله ، خلع عليه مبطنة وقميصا وطيلسانا وقلنسوة وخفا . فبينا نحن على باب الدار ، والناس في الميدان والدروب وغيرها ، وغلقت الأسواق إذ خرج أبو عبد الله على دابة من دار المعتصم في تلك الثياب ، وأحمد بن أبي دواد عن يمينه ، وإسحاق بن إبراهيم - يعني : نائب بغداد - عن يساره . فلما صار في الدهليز قبل أن يخرج ، قال لهم ابن أبي دواد : اكشفوا رأسه فكشفوه ، يعني : من الطيلسان ، وذهبوا يأخذون به ناحية الميدان نحو طريق الحبس . فقال لهم إسحاق : خذوا به هاهنا يريد دجلة ، فذهب به إلى الزورق ، وحمل إلى دار إسحاق بن إبراهيم ، فأقام عنده إلى أن صليت الظهر . وبعث إلى والدي وإلى جيراننا ومشايخ المحال ، فجمعوا وأدخلوا عليه . فقال لهم : هذا ، إن كان فيكم من يعرفه وإلا فليعرفه . أحمد بن حنبل
وقال ابن سماعة - حين دخل الجماعة - لهم : هذا ، وإن أمير المؤمنين ناظره في أمره ، وقد خلى سبيله ، وها هو ذا ، فأخرج على فرس أحمد بن حنبل لإسحاق بن إبراهيم عند غروب الشمس ، فصار إلى منزله ، ومعه السلطان والناس ، وهو منحن . فلما ذهب لينزل احتضنته ولم أعلم ، فوقعت يدي على موضع الضرب ، فصاح ، فنحيت يدي ، فنزل متوكئا علي ، وأغلق الباب ، ودخلنا معه ، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرك إلا بجهد ، [ ص: 261 ] ونزع ما كان خلع عليه ، فأمر به فبيع وتصدق بثمنه .
وكان المعتصم أمر إسحاق بن إبراهيم أن لا يقطع عنه خبره . وذلك أنه ترك فيما حكي لنا عند الإياس منه .
وبلغنا أن المعتصم ندم ، وأسقط في يده ، حتى صلح ، فكان صاحب خبر إسحاق بن إبراهيم يأتينا كل يوم يتعرف خبره ، حتى صح ، وبقيت إبهاماه منخلعتين يضربان عليه في البرد ، فيسخن له الماء ، ولما أردنا علاجه ، خفنا أن يدس أحمد بن أبي دواد سما إلى المعالج ، فعملنا الدواء والمرهم في منزلنا .
وسمعته يقول : كل من ذكرني ففي حل إلا مبتدعا ، وقد جعلت أبا إسحاق - يعني : المعتصم - في حل ، ورأيت الله يقول : وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر بالعفو في قصة مسطح . قال أبو عبد الله : وما ينفعك أن يعذب الله أخاك المسلم في سببك ؟ ! !
قال حنبل : قال أبو عبد الله : قال برغوث - يعني : يوم المحنة - : يا [ ص: 262 ] أمير المؤمنين هو كافر حلال الدم ، اضرب عنقه ، ودمه في عنقي . وقال شعيب كذلك أيضا تقلد دمي ، فلم يلتفت أبو إسحاق إليهما . وقال أبو عبد الله : لم يكن في القوم أشد تكفيرا لي منهما ، وأما ابن سماعة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه من أهل بيت شرف ولهم قدم ، ولعله يصير إلى الذي عليه أمير المؤمنين ، فكأنه رق عندها ، وكان إذا كلمني ابن أبي دواد ، لم ألتفت إلى كلامه ، وإذا كلمني أبو إسحاق ، ألنت له القول . قال : فقال في اليوم الثالث : أجبني يا أحمد ، فإنه بلغني أنك تحب الرئاسة ، وذلك لما أوغروا قلبه علي ، وجعل برغوث يقول : قال الجبري : كذا وكذا ، كلام هو الكفر بالله . فجعلت أقول : ما أدري ما هذا ، إلا أني أعلم أنه أحد صمد لا شبه له ولا عدل ، وهو كما وصف نفسه ، فسكت .
وقال لي أبو إسحاق : يا أحمد ، إني لأشفق عليك كشفقتي على ابني هارون ، فأجبني ، والله لوددت أني لم أكن عرفتك يا أحمد ، الله الله في دمك .
فلما كان في آخر ذلك ، قال : لعنك الله ، لقد طمعت أن تجيبني ، ثم قال : خذوه واسحبوه . فأخذت ثم خلعت ، وجيء بعقابين وأسياط ، وكان معي شعر من شعر النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم صيرت بين العقابين ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، الله الله ، إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : يا أمير المؤمنين ، فيم تستحل دمي ؟ الله الله ، لا تلق الله وبيني وبينك مطالبة . اذكر يا أمير المؤمنين وقوفك بين يدي الله - تعالى - كوقوفي بين يديك ، وراقب الله . فكأنه أمسك ، فخاف لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث ابن أبي دواد أن يكون منه عطف أو رأفة ، فقال : إنه كافر بالله ضال مضل . [ ص: 263 ]
قال حنبل : لما أردنا علاجه ، خفنا أن يدس ابن أبي دواد إلى المعالج ، فيلقي في دوائه سما . فعملنا الدواء والمرهم عندنا ، فكان في برنية فإذا داواه ، رفعناها . قال : وكان إذا أصابه البرد ، ضرب عليه .
وقال : لقد ظننت أني أعطيت المجهود من نفسي .