الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      رحلته وحفظه

                                                                                      قال صالح : سمعت أبي يقول : خرجت إلى الكوفة ، فكنت في بيت تحت رأسي لبنة ، فحججت ، فرجعت إلى أمي ، ولم أكن استأذنتها .

                                                                                      وقال حنبل : سمعت أبا عبد الله يقول : تزوجت وأنا ابن أربعين سنة ، فرزق الله خيرا كثيرا .

                                                                                      قال أبو بكر الخلال في كتاب " أخلاق أحمد " ، وهو مجلد : أملى علي زهير بن صالح بن أحمد قال : تزوج جدي عباسة بنت الفضل من العرب ، فلم يولد له منها غير أبي . وتوفيت فتزوج بعدها ريحانة ، فولدت عبد الله عمي ، ثم توفيت ، فاشترى حسن ، فولدت أم علي زينب ، وولدت الحسن والحسين توأما وماتا بقرب ولادتهما ، ثم ولدت الحسن ومحمدا ، فعاشا حتى صارا من السن إلى نحو من أربعين سنة ، ثم ولدت سعيدا . قيل : كانت والدة عبد الله عوراء ، وأقامت معه سنين .

                                                                                      قال المروذي : قال لي أبو عبد الله : اختلفت إلى الكتاب ، ثم اختلفت إلى الديوان ، وأنا ابن أربع عشرة سنة . [ ص: 186 ] وذكر الخلال حكايات في عقل أحمد وحياته في المكتب وورعه في الصغر .

                                                                                      حدثنا المروذي : سمعت أبا عبد الله يقول : مات هشيم ولي عشرون سنة ، فخرجت أنا والأعرابي رفيق كان لأبي عبد الله قال : فخرجنا مشاة ، فوصلنا الكوفة ، يعني : في سنة ثلاث وثمانين ، فأتينا أبا معاوية ، وعنده الخلق ، فأعطى الأعرابي حجة بستين درهما ، فخرج وتركني في بيت وحدي ، فاستوحشت ، وليس معي إلا جراب فيه كتبي ، كنت أضعه فوق لبنة ، وأضع رأسي عليه . وكنت أذاكر وكيعا بحديث الثوري ، وذكر مرة شيئا ، فقال : هذا عند هشيم ؟ فقلت : لا . وكان ربما ذكر العشر أحاديث فأحفظها ، فإذا قام ، قالوا لي ، فأمليها عليهم .

                                                                                      وحدثنا عبد الله بن أحمد ، قال لي أبي : خذ أي كتاب شئت من كتب وكيع من المصنف ، فإن شئت أن تسألني عن الكلام حتى أخبرك بالإسناد ، وإن شئت بالإسناد حتى أخبرك أنا بالكلام .

                                                                                      وحدثنا عبد الله بن أحمد : سمعت سفيان بن وكيع يقول : أحفظ عن أبيك مسألة من نحو أربعين سنة . سئل عن الطلاق قبل النكاح ، فقال : يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن علي وابن عباس ونيف وعشرين من التابعين ، لم يروا به بأسا . فسألت أبي عن ذلك ، فقال : صدق ، كذا قلت .

                                                                                      قال : وحفظت أني سمعت أبا بكر بن حماد يقول : سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول : لا يقال لأحمد بن حنبل : من أين قلت ؟ وسمعت أبا إسماعيل الترمذي ، يذكر عن ابن نمير قال : كنت عند وكيع ، فجاءه رجل ، أو قال : جماعة من أصحاب أبي حنيفة ، فقالوا له : هاهنا رجل بغدادي يتكلم في بعض الكوفيين ، فلم يعرفه وكيع . فبينا نحن إذ [ ص: 187 ] طلع أحمد بن حنبل ، فقالوا : هذا هو ، فقال وكيع : هاهنا يا أبا عبد الله ، فأفرجوا له ، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون . وجعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا لوكيع : هذا بحضرتك ترى ما يقول ؟ فقال : رجل يقول : قال رسول الله ، أيش أقول له ؟ ثم قال : ليس القول إلا كما قلت يا أبا عبد الله ، فقال القوم لوكيع : خدعك والله البغدادي .

                                                                                      قال عارم : وضع أحمد عندي نفقته ، فقلت له يوما : يا أبا عبد الله ، بلغني أنك من العرب . فقال : يا أبا النعمان ، نحن قوم مساكين فلم يزل يدافعني حتى خرج ، ولم يقل لي شيئا .

                                                                                      قال الخلال : أخبرنا المروذي : أن أبا عبد الله قال : ما تزوجت إلا بعد الأربعين . وعن أحمد الدورقي ، عن أبي عبد الله قال : نحن كتبنا الحديث من ستة وجوه وسبعة لم نضبطه ، فكيف يضبطه من كتبه من وجه واحد ؟! قال عبد الله بن أحمد : قال لي أبو زرعة : أبوك يحفظ ألف ألف حديث ، فقيل له : وما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب . فهذه حكاية صحيحة في سعة علم أبي عبد الله ، وكانوا يعدون في ذلك المكرر ، والأثر ، وفتوى التابعي ، وما فسر ، ونحو ذلك وإلا فالمتون المرفوعة القوية لا تبلغ عشر معشار ذلك .

                                                                                      قال ابن أبي حاتم : قال سعيد بن عمرو : يا أبا زرعة ، أأنت أحفظ ، أم أحمد ؟ قال : بل أحمد . قلت : كيف علمت ؟ قال : وجدت كتبه ليس في أوائل الأجزاء أسماء الذين حدثوه . فكان يحفظ كل جزء ممن سمعه ، وأنا لا أقدر على هذا . [ ص: 188 ] وعن أبي زرعة قال : حزرت كتب أحمد يوم مات ، فبلغت اثني عشر حملا وعدلا . ما كان على ظهر كتاب منها حديث فلان ، ولا في بطنه حدثنا فلان ، كل ذلك كان يحفظه .

                                                                                      وقال حسن بن منبه : سمعت أبا زرعة يقول : أخرج إلي أبو عبد الله أجزاء كلها سفيان ، ليس على حديث منها " حدثنا فلان " ، فظننتها عن رجل واحد ، فانتخبت منها . فلما قرأ ذلك علي جعل يقول : حدثنا وكيع ، ويحيى ، وحدثنا فلان ، فعجبت ، ولم أقدر أنا على هذا .

                                                                                      قال إبراهيم الحربي : رأيت أبا عبد الله ، كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين . وعن رجل قال : ما رأيت أحدا أعلم بفقه الحديث ومعانيه من أحمد . أحمد بن سلمة : سمعت ابن راهويه يقول : كنت أجالس أحمد وابن معين ، ونتذاكر فأقول : ما فقهه ؟ ما تفسيره ؟ فيسكتون إلا أحمد .

                                                                                      قال أبو بكر الخلال : كان أحمد قد كتب كتب الرأي وحفظها ، ثم لم يلتفت إليها .

                                                                                      قال إبراهيم بن شماس : سألنا وكيعا عن خارجة بن مصعب ، فقال : نهاني أحمد أن أحدث عنه .

                                                                                      قال العباس بن محمد الخلال : حدثنا إبراهيم بن شماس ، سمعت [ ص: 189 ] وكيعا وحفص بن غياث ، يقولان : ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى ، يعنيان : أحمد بن حنبل . وقيل : إن أحمد أتى حسينا الجعفي بكتاب كبير يشفع في أحمد ، فقال حسين : يا أبا عبد الله ، لا تجعل بيني وبينك منعما فليس تحمل علي بأحد إلا وأنت أكبر منه .

                                                                                      الخلال : حدثنا المروذي ، أخبرنا خضر المروذي بطرسوس ، سمعت ابن راهويه ، سمعت يحيى بن آدم يقول : أحمد بن حنبل إمامنا .

                                                                                      الخلال : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا الأثرم ، حدثني بعض من كان مع أبي عبد الله ، أنهم كانوا يجتمعون عند يحيى بن آدم ، فيتشاغلون عن الحديث بمناظرة أحمد يحيى بن آدم ، ويرتفع الصوت بينهما ، وكان يحيى بن آدم واحد أهل زمانه في الفقه .

                                                                                      الخلال : أخبرنا المروذي ، سمعت محمد بن يحيى القطان يقول : رأيت أبي مكرما لأحمد بن حنبل ، لقد بذل له كتبه ، أو قال : حديثه .

                                                                                      وقال القواريري : قال يحيى القطان : ما قدم علينا مثل هذين; أحمد ويحيى بن معين . وما قدم علي من بغداد أحب إلي من أحمد بن حنبل .

                                                                                      وقال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : شق على يحيى بن سعيد يوم خرجت من البصرة .

                                                                                      عمرو بن العباس : سمعت عبد الرحمن بن مهدي ، ذكر أصحاب الحديث ، فقال : أعلمهم بحديث الثوري أحمد بن حنبل . قال : فأقبل [ ص: 190 ] أحمد ، فقال ابن مهدي : من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري ، فلينظر إلى هذا .

                                                                                      قال المروذي : قال أحمد : عنيت بحديث سفيان ، حتى كتبته عن رجلين ، حتى كلمنا يحيى بن آدم ، فكلم لنا الأشجعي ، فكان يخرج إلينا الكتب ، فنكتب من غير أن نسمع . وعن ابن مهدي قال : ما نظرت إلى أحمد إلا ذكرت به سفيان .

                                                                                      قال عبد الله بن أحمد : سمعت أبي يقول : خالف وكيع ابن مهدي في نحو من ستين حديثا من حديث سفيان ، فذكرت ذلك لابن مهدي ، وكان يحكيه عني .

                                                                                      عباس الدوري : سمعت أبا عاصم يقول لرجل بغدادي : من تعدون عندكم اليوم من أصحاب الحديث ؟ .

                                                                                      قال : عندنا أحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، وأبو خيثمة ، والمعيطي ، والسويدي ، حتى عد له جماعة بالكوفة أيضا وبالبصرة . فقال أبو عاصم : قد رأيت جميع من ذكرت ، وجاءوا إلي ، لم أر مثل ذاك الفتى ، يعني : أحمد بن حنبل .

                                                                                      قال شجاع بن مخلد : سمعت أبا الوليد الطيالسي يقول : ما بالمصرين رجل أكرم علي من أحمد بن حنبل . وعن سليمان بن حرب ، أنه قال لرجل : سل أحمد بن حنبل ، وما يقول في مسألة كذا ؟ فإنه عندنا إمام . [ ص: 191 ]

                                                                                      الخلال : حدثنا علي بن سهل قال : رأيت يحيى بن معين عند عفان ، ومعه أحمد بن حنبل ، فقال : ليس هنا اليوم حديث . فقال يحيى : ترد أحمد بن حنبل ، وقد جاءك ؟ فقال : الباب مقفل ، والجارية ليست هنا . قال يحيى : أنا أفتح ، فتكلم على القفل بشيء ، ففتحه . فقال عفان : أفشاش أيضا؟! وحدثهم .

                                                                                      قال : وحدثنا المروذي : قلت لأحمد : أكان أغمي عليك ، أو غشي عليك عند ابن عيينة ؟ قال : نعم ، في دهليزه زحمني الناس ، فأغمي علي .

                                                                                      وروي أن سفيان ، قال يومئذ : كيف أحدث وقد مات خير الناس ؟ .

                                                                                      وقال مهنى بن يحيى : قد رأيت ابن عيينة ، ووكيعا ، وبقية ، وعبد الرزاق ، وضمرة ، والناس ، ما رأيت رجلا أجمع من أحمد في علمه وزهده وورعه . وذكر أشياء .

                                                                                      وقال نوح بن حبيب القومسي : سلمت على أحمد بن حنبل في سنة ثمان وتسعين ومائة بمسجد الخيف ، وهو يفتي فتيا واسعة .

                                                                                      وعن شيخ أنه كان عنده كتاب بخط أحمد بن حنبل ، فقال : كنا عند ابن عيينة سنة ، ففقدت أحمد بن حنبل أياما ، فدللت على موضعه ، فجئت ، فإذا هو في شبيه بكهف في جياد . فقلت : سلام عليكم ، أدخل ؟ فقال : لا . ثم قال : ادخل ، فدخلت ، وإذا عليه قطعة لبد خلق ، [ ص: 192 ] فقلت : لم حجبتني ؟ فقال : حتى استترت . فقلت : ما شأنك ؟ قال : سرقت ثيابي . قال : فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم ، فعرضتها عليه ، فامتنع ، فقلت : قرضا ، فأبى ، حتى بلغت عشرين درهما ، ويأبى . فقمت ، وقلت : ما يحل لك أن تقتل نفسك . قال : ارجع ، فرجعت ، فقال : أليس قد سمعت معي من ابن عيينة ؟ قلت : بلى . قال : تحب أن أنسخه لك ؟ قلت : نعم . قال : اشتر لي ورقا . قال : فكتب بدراهم اكتسى منها ثوبين .

                                                                                      الحاكم : سمعت بكران بن أحمد الحنظلي الزاهد ببغداد ، سمعت عبد الله بن أحمد ، سمعت أبي يقول : قدمت صنعاء ، أنا ويحيى بن معين ، فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته ، وتخلف يحيى ، فلما ذهبت أدق الباب ، قال لي بقال تجاه داره : مه ، لا تدق ، فإن الشيخ يهاب . فجلست حتى إذا كان قبل المغرب ، خرج فوثبت إليه ، وفي يدي أحاديث انتقيتها ، فسلمت ، وقلت : حدثني بهذه رحمك الله ، فإني رجل غريب . قال : ومن أنت ؟ وزبرني . قلت : أنا أحمد بن حنبل قال : فتقاصر ؟ وضمني إليه ، وقال : بالله أنت أبو عبد الله ؟ ثم أخذ الأحاديث ، وجعل يقرؤها حتى أظلم ، فقال للبقال : هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب ، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب .

                                                                                      الخلال : حدثنا الرمادي ، سمعت عبد الرزاق ، وذكر أحمد بن حنبل ، فدمعت عيناه ، فقال : بلغني أن نفقته نفدت ، فأخذت بيده ، فأقمته خلف الباب ، وما معنا أحد ، فقلت له : إنه لا تجتمع عندنا الدنانير ، إذا بعنا الغلة ، أشغلناها في شيء . وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها ، وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء . فقال لي : يا أبا بكر ، لو قبلت [ ص: 193 ] من أحد شيئا ، قبلت منك .

                                                                                      وقال عبد الله : قلت لأبي : بلغني أن عبد الرزاق عرض عليك دنانير ؟ .

                                                                                      قال : نعم . وأعطاني يزيد بن هارون خمسمائة درهم - أظن - فلم أقبل ، وأعطى يحيى بن معين ، وأبا مسلم ، فأخذا منه .

                                                                                      وقال محمد بن سهل بن عسكر : سمعت عبد الرزاق يقول : إن يعش هذا الرجل ، يكون خلفا من العلماء .

                                                                                      المروذي : حدثني أبو محمد النسائي ، سمعت إسحاق بن راهويه قال : كنا عند عبد الرزاق أنا وأحمد بن حنبل ، فمضينا معه إلى المصلى يوم عيد ، فلم يكبر هو ولا أنا ولا أحمد ، فقال لنا : رأيت معمرا والثوري في هذا اليوم كبرا ، وإني رأيتكما لم تكبرا فلم أكبر ، فلم لم تكبرا ؟ قلنا : نحن نرى التكبير ، ولكن شغلنا بأي شيء نبتدئ من الكتب .

                                                                                      أبو إسحاق الجوزجاني قال : كان أحمد بن حنبل يصلي بعبد الرزاق ، فسها ، فسأل عنه عبد الرزاق ، فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام شيئا . رواها الخلال قال : سمعت أبا زرعة القاضي الدمشقي عن الجوزجاني .

                                                                                      قال الخلال : حدثنا أبو القاسم بن الجبلي ، عن أبي إسماعيل الترمذي ، عن إسحاق بن راهويه قال : كنت مع أحمد بن حنبل عند عبد الرزاق ، وكانت معي جارية ، وسكنا فوق ، وأحمد أسفل في البيت . فقال لي : يا أبا يعقوب : هو ذا يعجبني ما أسمع من حركتكم . قال : وكنت أطلع فأراه يعمل التكك ، ويبيعها ، ويتقوت بها هذا أو نحوه . [ ص: 194 ]

                                                                                      قال المروذي : سمعت أبا عبد الله يقول : كنت في إزري من اليمن إلى مكة . قلت : اكتريت نفسك من الجمالين ؟ قال : قد اكتريت لكتبي ، ولم يقل لا . وعن إسماعيل ابن علية : أنه أقيمت الصلاة ، فقال : هاهنا أحمد بن حنبل ، قولوا له يتقدم يصلي بنا .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية