الكذاب ، كان والده الأمير أبو عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف بن ثقيف قد أسلم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم نعلم له صحبة .
استعمله على جيش ، فغزا عمر بن الخطاب العراق ، وإليه تنسب [ ص: 539 ] وقعة جسر أبي عبيد .
ونشأ المختار ، فكان من كبراء ثقيف ، وذوي الرأي ، والفصاحة ، والشجاعة ، والدهاء ، وقلة الدين ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ثقيف كذاب ومبير فكان الكذاب هذا ، ادعى أن الوحي يأتيه ، وأنه يعلم الغيب ، وكان المبير يكون في الحجاج ، قبحهما الله .
قال أحمد في " مسنده " : حدثنا ابن عمير ، حدثنا عيسى بن عمر حدثنا ، عن السدي رفاعة الفتياني قال : دخلت على المختار ، فألقى لي وسادة ، وقال : لولا أن جبريل قام عن هذه ، لألقيتها لك ، فأردت أن أضرب عنقه ، فذكرت حديثا حدثنيه عمرو بن الحمق ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : . أيما مؤمن أمن مؤمنا على دمه فقتله ، فأنا من القاتل بريء
وروى مجالد ، عن الشعبي قال : أقرأني الأحنف كتاب المختار إليه يزعم أنه نبي ، وكان المختار قد سار من الطائف بعد مصرع الحسين إلى مكة ، فأتى ابن الزبير ، وكان قد طرد لشره إلى الطائف ، فأظهر المناصحة ، [ ص: 540 ] وتردد إلى ، فكانوا يسمعون منه ما ينكر . فلما مات ابن الحنفية يزيد ، استأذن ابن الزبير في الرواح إلى العراق ، فركن إليه ، وأذن له .
وكتب إلى نائبه بالعراق عبد الله بن مطيع يوصيه به ، فكان يختلف إلى ابن مطيع ، ثم أخذ يعيب في الباطن ابن الزبير ، ويثني على ، ويدعو إليه ، وأخذ يشغب على ابن الحنفية ابن مطيع ، ويمكر ويكذب ، فاستغوى جماعة ، والتفت عليه الشيعة ، فخافه ابن مطيع ، وفر من الكوفة ، وتمكن هو ، ودعا ابن الزبير إلى مبايعة ، فأبى ، فحصره ، وضيق عليه ، وتوعده ، فتألمت محمد ابن الحنفية الشيعة له ، ورد المختار إلى مكة .
ثم بعث معه ابن الزبير على خراج إبراهيم بن محمد بن طلحة الكوفة ، فقدم المختار وقد هاجت الشيعة للطلب بالثأر ، وعليهم ، فأخذ سليمان بن صرد المختار يفسدهم ، ويقول : إني جئت من قبل المهدي ابن الوصي ، يريد ، فتبعه خلق ، وقال : إن ابن الحنفية سليمان لا يصنع شيئا ، إنما يلقي بالناس إلى التهلكة ، ولا خبرة له بالحرب .
وخاف عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فذهب عبد الله بن يزيد الخطمي نائب ابن الزبير وإبراهيم بن محمد إلى ابن صرد فقالا : إنكم أحب أهل بلدنا إلينا ، فلا تفجعونا بأنفسكم ، ولا تنقصوا عددنا بخروجكم ، قفوا حتى نتهيأ . قال ابن صرد : قد خرجنا لأمر ولا نرانا إلا شاخصين .
فسار ، ومعه كل مستميت ، ومروا بقبر الحسين ، فبكوا ، وأقاموا يوما عنده وقالوا : يا رب قد خذلناه ، فاغفر لنا ، وتب علينا ، ثم نزلوا قرقيسيا ، فتم المصاف بعين الوردة ، وقتل ابن صرد وعامة التوابين ، ومرض عبيد الله بالجزيرة ، فاشتغل بذلك وبقتال أهلها عن العراق سنة وحاصر الموصل .
وأما المختار فسجن مدة ، ثم خرج ، فحاربه أهل الكوفة ، فقتل رفاعة بن شداد ، ، وعدة . وغلب على وعبد الله بن سعد الكوفة ، وهرب منه [ ص: 541 ] نائب ابن الزبير ، فقتل جماعة ممن قاتل الحسين ، وقتل الشمر بن ذي الجوشن ، وعمر بن سعد ، وقال : إن جبريل ينزل علي بالوحي ، واختلق كتابا عن إليه يأمره بنصر ابن الحنفية الشيعة ، وثار في عشيرته ، فقتل صاحب الشرطة ، وسر به إبراهيم بن الأشتر المختار ، وقوي ، وعسكروا بدير هند ، فحاربهم نائب ابن الزبير ، ثم ضعف واختفى ، وأخذ المختار في العدل ، وحسن السيرة .
وبعث إلى النائب بمال ، وقال : اهرب . ووجد المختار في بيت المال سبعة آلاف ألف درهم ، فأنفق في جيشه ، وكتب إلى ابن الزبير : إني رأيت عاملك مداهنا لبني أمية ، فلم يسعني أن أقره ، فانخدع له ابن الزبير ، وكتب إليه بولاية الكوفة ، فجهز ابن الأشتر لحرب عبيد الله بن زياد في آخر سنة ست وستين ، ومعه كرسي على بغل أشهب .
وقال المختار : هذا فيه سر ، وهو آية لكم ، كما كان التابوت لبني إسرائيل . فحفوا به يدعون ، فتألم ابن الأشتر ، وقال : اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا سنة بني إسرائيل إذ عكفوا على العجل .
فعن طفيل بن جعدة بن هبيرة ، قال : كان لي جار زيات له كرسي ، فاحتجت فقلت للمختار : إني كنت أكتمك شيئا ، والآن أذكره .
قال : وما هو ؟ قلت : كرسي كان أبي يجلس عليه ، كان يرى أن فيه أثارة من علم . قال : سبحان الله ! لم أخرته ؟ فجيء به وعليه ستر ، فأمر لي باثني عشر ألفا ، ودعا بالصلاة جامعة ، فاجتمعوا ، فقال : إنه لم يكن في الأمم الخالية أمر إلا وهو كائن فيكم ، وقد كان في بني إسرائيل التابوت ، وإن فينا [ ص: 542 ] مثله . اكشفوا هذا ، فكشفوا الأثواب ، وقامت السبائية . فرفعوا أيديهم ، فأنكر شبث بن ربعي ، فضرب ، فلما انتصروا على عبيد الله افتتنوا بالكرسي ، وتغالوا فيه ، فقلت : إنا لله ، وندمت . فلما زاد كلام الناس ، غيب . وكان المختار يربطهم بالمحال والكذب ، ويتألفهم بقتل النواصب .
عن الشعبي قال : خرجت أنا وأبي مع المختار ، فقال لنا : أبشروا ، فإن شرطة الله قد حسوهم بالسيوف بقرب نصيبين . فدخلنا المدائن ، فوالله إنه ليخطبنا ، إذ جاءته البشرى بالنصر ، فقال : ألم أبشركم بهذا ؟ قالوا : بلى ، فقال لي همداني : أتؤمن الآن ؟ قلت : بماذا ؟ قال : بأن المختار يعلم الغيب ، ألم يقل لنا : إنهم هزموا ؟ قلت : إنما زعم أن ذلك بنصيبين ، وإنما وقع ذلك بالخازر من الموصل . قال : والله لا تؤمن يا شعبي حتى ترى العذاب الأليم .
وقيل : كان رجل يقول : قد وضع لنا اليوم وحي ما سمع الناس بمثله فيه نبأ ما يكون .
وعن موسى بن عامر قال : إنما كان يضع لهم عبد الله بن نوف ، يقول : إن المختار أمرني به ، ويتبرأ من ذلك المختار ، فقال سراقة البارقي : [ ص: 543 ]
كفرت بوحيكم وجعلت نذرا علي هجاءكم حتى الممات أري عيني ما لم ترأياه
كلانا عالم بالترهات
ووقع المصاف ، فقتل ابن زياد ، قده ابن الأشتر نصفين . وكان بطل النخع ، وفارس اليمانية فدخل الموصل ، واستولى على الجزيرة .
ثم وجه المختار أربعة آلاف فارس في نصر ، فكلموا محمد ابن الحنفية ابن الزبير ، وأخرجوه من الشعب ، وأقاموا في خدمته أشهرا ، حتى بلغهم قتل المختار ، فإن ابن الزبير علم مكره ، فندب لحربه أخاه مصعبا ، فقدم محمد بن الأشعث ، إلى وشبث بن ربعي البصرة يستصرخان الناس على الكذاب ، ثم التقى مصعب وجيش المختار ، فقتل ابن الأشعث ، وعبيد الله بن علي بن أبي طالب ، وانفل الكوفيون ، فحصرهم مصعب في دار الإمارة ، فكان المختار يبرز في فرسانه ، ويقاتل حتى قتله طريف الحنفي وأخوه طراف في رمضان سنة سبع وستين ، وأتيا برأسه مصعبا ، فوهبهما ثلاثين ألفا ، وقتل من الفريقين سبعمائة .
وقيل : كان المختار في عشرين ألفا . ثم إن مصعبا أساء ، فأمن بقصر الإمارة خلقا ، ثم قتلهم غدرا ، وذبحت عمرة بنت النعمان بن بشير صبرا ؛ لأنها شهدت أن زوجها المختار عبد صالح . وأقبل في نجدة مصعب في الرجال والأموال ، ولما خذل المهلب بن أبي صفرة المختار قال لصاحبه : ما من الموت بد ، وحبذا مصارع الكرام . وقل عليه القوت في الحصار والماء ، وجاعوا في القصر ، فبرز المختار للموت في تسعة عشر مقاتلا .
فقال المختار : أتؤمنوني ؟ قالوا : لا ، إلا على الحكم ، قال : لا أحكم في [ ص: 544 ] نفسي . وقاتل حتى قتل ، وأمكن أهل القصر من أنفسهم ، فبعث إليهم عباد بن حصين ، فكان يخرجهم مكتفين ، ويقتلهم . فقال رجل لمصعب بن الزبير : الحمد لله الذي ابتلانا بالأسر ، وابتلاك أن تعفو ، وهما منزلتان إحداهما رضى الله والأخرى سخطه ، من عفا ، عفا الله عنه ، ومن قتل ، لم يأمن القصاص ، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ، لسنا تركا ولا ديلما ، قاتلنا إخواننا كما اقتتل أهل الشام بينهم ، ثم اصطلحوا ، وقد ملكتم فأسجحوا ، فرق مصعب ، وهم أن يدعهم ، فوثب ، وقال : اخترنا أو اخترهم ، وقال آخر : قتل أبي في خمسمائة من عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث همدان وتخليهم ؟ ! . وسمرت كف المختار إلى جانب المسجد .
وروى إسحاق بن سعيد ، عن أبيه قال : جاء مصعب يزور ابن عمر ، فقال : أي عم اسألك عن قوم خلعوا الطاعة ، وقاتلوا حتى إذا غلبوا ، تحصنوا ، وطلبوا الأمان ، فأعطوا ، ثم قتلوا . قال : كم العدد ؟ قال : خمسة آلاف ، فسبح ابن عمر ، ثم قال : يا مصعب لو أن امرءا أتى ماشية الزبير ، فذبح منها خمسة آلاف شاة في غداة أكنت تعده مسرفا ؟ قال : نعم ، قال : فتراه إسرافا في البهائم . وقتلت من وحد الله . أما كان فيهم مكره أو جاهل ترجى توبته ، اصبب يا ابن أخي من الماء البارد ما استطعت في دنياك .
وقد كان المختار معظما ينفذ إليه بالأموال ، وكان لابن عمر ابن عمر تحته صفية أخت المختار .
ونشأ المختار بالمدينة يعرف بالميل إلى بني هاشم ، ثم سار إلى البصرة يظهر بها ذكر الحسين في أيام معاوية ، فأخبر به عبيد الله بن زياد ، فأمسك ، وضربه مائة ودرعه عباءة ، ونفاه إلى الطائف . فلما عاذ ابن الزبير بالبيت ، خرج إليه .