صاحب إربل
السلطان الدين الملك المعظم مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني صاحب إربل وابن صاحبها وممصرها الملك زين الدين علي كوجك ، وكوجك هو اللطيف القد ، كان كوجك شهما شجاعا مهيبا ، تملك بلادا كثيرة ، ثم وهبها لأولاد صاحب [ ص: 335 ] الموصل ، وكان يوصف بقوة مفرطة ، وطال عمره ، وحج هو والأمير أسد الدين شيركوه بن شاذي ، وتوفي في سنة ثلاث وستين وخمسمائة وله أوقاف وبر ومدرسة بالموصل . فلما مات تملك إربل ابنه هذا وهو مراهق ، وصار أتابكه مجاهد الدين قيماز ، فعمل عليه قيماز وكتب محضرا بأنه لا يصلح للملك وقبض عليه وملك أخاه زين الدين يوسف ، فتوجه مظفر الدين إلى بغداد فما التفتوا عليه ، فقدم الموصل على صاحبها سيف الدين غازي بن مودود ، فأقطعه حران ، فبقي بها مديدة ، ثم اتصل بخدمة السلطان صلاح الدين ، وغزا معه ، وتمكن منه ، وأحبه ، وزاده الرها ، وزوجه بأخته ربيعة واقفة الصاحبية . وأبان مظفر الدين عن شجاعة يوم حطين ، وبين ، فوفد أخوه صاحب إربل على صلاح الدين نجدة فتمرض ومات على عكا فأعطى السلطان مظفر الدين إربل وشهرزور ، واسترد منه حران والرها .
وكان محبا للصدقة ، له كل يوم قناطير خبز يفرقها ، ويكسو في العام خلقا ويعطيهم دينارا ودينارين ، وبنى أربع خوانك للزمنى والأضراء ، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس ويسأل كل واحد عن حاله ويتفقده ويباسطه ويمزح معه . وبنى دارا للنساء ، ودارا للأيتام ، ودارا للقطاء ، ورتب بها المراضع . وكان يدور على مرضى البيمارستان . وله دار مضيف ينزلها كل وارد ، ويعطى كل ما ينبغي له . وبنى مدرسة للشافعية والحنفية وكان يمد بها السماط ، ويحضر السماع كثيرا ، لم يكن له لذة في شيء غيره . وكان يمنع من دخول منكر بلده ، وبنى للصوفية رباطين ، وكان ينزل إليهم لأجل السماعات . وكان في السنة يفتك أسرى بجملة ويخرج سبيلا للحج ، ويبعث للمجاورين بخمسة آلاف دينار ، وأجرى الماء إلى عرفات . [ ص: 336 ]
وأما احتفاله بالمولد فيقصر التعبير عنه ; كان الخلق يقصدونه من العراق والجزيرة وتنصب قباب خشب له ولأمرائه وتزين ، وفيها جوق المغاني واللعب ، وينزل كل يوم العصر فيقف على كل قبة ويتفرج ، ويعمل ذلك أياما ، ويخرج من البقر والإبل والغنم شيئا كثيرا فتنحر وتطبخ الألوان ، ويعمل عدة خلع للصوفية ، ويتكلم الوعاظ في الميدان ، فينفق أموالا جزيلة . وقد جمع له ابن دحية " كتاب المولد " فأعطاه ألف دينار .
وكان متواضعا ، خيرا ، سنيا ، يحب الفقهاء والمحدثين ، وربما أعطى الشعراء ، وما نقل أنه انهزم في حرب ، وقد ذكر هذا وأمثاله ابن خلكان واعتذر من التقصير . مولده في المحرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة بإربل .
قال ابن الساعي : طالت عليه مداراة أولاد العادل ، فأخذ مفاتيح إربل وقلاعها وسلم ذلك إلى المستنصر في أول سنة ثمان وعشرين ، قال : فاحتفلوا له ، واجتمع بالخليفة وأكرمه ، وقلده سيفين ورايات وخلعا وستين ألف دينار .
وقال سبط الجوزي كان مظفر الدين ينفق في السنة على المولد ثلاث مائة ألف دينار ، وعلى الخانقاه مائتي ألف دينار ، وعلى دار المضيف مائة ألف . وعد من هذا الخسف أشياء . [ ص: 337 ]
وقال : قال من حضر المولد مرة : عددت على سماطه مائة فرس قشلميش ، وخمسة آلاف رأس شوي ، وعشرة آلاف دجاجة ، ومائة ألف زبدية ، وثلاثين ألف صحن حلواء .
قلت : ما أعتقد وقوع هذا ، فعشر ذلك كثير جدا . وقد حدث عن حنبل المكبر .
قال ابن خلكان مات ليلة الجمعة رابع عشر رمضان سنة ثلاثين وستمائة وعمل في تابوت ، وحمل مع الحجاج إلى مكة فاتفق أن الوفد رجعوا تلك السنة لعدم الماء ، فدفن بالكوفة -رحمه الله تعالى- وعاش اثنتين وثمانين سنة .
وعاش أبوه فوق المائة ، وعمي وأصم ، وكان من كبار الدولة الأتابكية ، ما انهزم قط . ومدحه الحيص بيص ، فقال : ما أعرف ما تقول ، ولكني أدري أنك تريد شيئا ! وأمر له بخلعة وفرس وخمس مائة دينار .