[ ص: 344 ] قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين
جرى هذا الكلام على عادة القرآن في تعقيب الترهيب بالترغيب ، والوعيد بالوعد ، والعكس ، فأنذرهم بما أنذر ، وتوعدهم بما توعد ، ثم ذكرهم بأنهم متمكنون من التدارك وإصلاح ما أفسدوا ، فأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بأن يقول لهم ما يفتح لهم باب الإنابة .
والجملة استيناف يصح جعله بيانيا لأن ما تقدم بين يديه من الوعيد وقلة الاكتراث بشأنهم ، وذكر خيبة مساعيهم ، مما يثير في أنفس بعضهم والسامعين أن يتساءلوا عما إذا بقي لهم مخلص ينجيهم من ورطتهم التي ارتبقوا فيها ، فأمر الرسول بأن يقول لهم هذا المقال ليريهم أن باب التوبة مفتوح ، والإقلاع في مكنتهم .
وأسند الفعل في الجملة المحكية بالقول إلى ضمير الغائبين لأنه حكاية بالمعنى روعي فيها جانب المخاطب بالأمر تنبيها على أنه ليس حظه مجرد تبليغ مقالة ، فجعل حظه حظ المخبر بالقضية الذي يراد تقررها لديه قبل تبليغها ، وهو إذا بلغ إليهم يبلغ إليهم ما أعلم به وبلغ إليه ، فيكون مخبرا بخبر وليس مجرد حامل لرسالة .
والمراد بالانتهاء : الانتهاء عن شيء معلوم دل عليه وصف الكفر هنا وما تقدمه من أمثاله وآثاره من الإنفاق للصد عن سبيل الله ، أي إن ينتهوا عن ذلك ، وإنما يكون الانتهاء عن ذلك كله بالإيمان .
و ( ما قد سلف ) هو ما أسلفوه من الكفر وآثاره ، وهذا ، وإن كان قضية خاصة بالمشركين المخاطبين ، فهو شامل كل كافر لتساوي الحال .
ولفظ الغفران حقيقة شرعية في العفو عن جزاء الذنوب في الآخرة ، وذلك مهيع الآية فهو معلوم منها بالقصد الأول لا محالة ، ويلحق به هنا عذاب الله في الدنيا لقوله فقد مضت سنة الأولين .
واستنبط أيمتنا من هذه الآية أحكاما للأفعال والتبعات التي قد تصدر من الكافر في [ ص: 345 ] حال كفره فإذا هو أسلم قبل أن يؤاخذ بها هل يسقط عنه إسلامه التبعات بها .
وذلك يرجع إلى ما استقريته وأصلته في دلالة آي القرآن على ما يصح أن تدل عليه ألفاظها وتراكيبها في المقدمة التاسعة من هذا التفسير ، فروى ابن العربي في الأحكام أن ابن القاسم ، وأشهب ، وابن وهب ، رووا عن مالك في هذه الآية : أن من طلق في الشرك ثم أسلم فلا طلاق عليه ، ومن حلف يمينا ثم أسلم فلا حنث عليه فيها ، وروي عن مالك : إنما يعني - عز وجل - ما قد مضى قبل الإسلام من مال أو دم أو شيء . قال ابن العربي : وهو الصواب لعموم قوله " إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف " ، وأن ابن القاسم ، وابن وهب ، رويا عن مالك أن الكافر إذا افترى على مسلم أو سرق ثم أسلم يقام عليه الحد . ولو زنى ثم أسلم أو اغتصب مسلمة ثم أسلم لسقط عنه الحد تفرقة بين ما كان حقا لله محضا وما كان فيه حق للناس .
وذكر القرطبي عن ابن المنذر : أنه حكى مثل ذلك عن وأنه احتج بهذه الآية ، وفي المدونة تسقط عنه الحدود كلها . الشافعي ،
وذكر في الكشاف عن أبي حنيفة أن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة ، وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله وتبقى عليه حقوق الآدميين ، واحتج بهذه الآية ، وفي كتب الفتوى لعلماء الحنفية بعض مخالفة لهذا ، وحكوا في المرتد إذا تاب وعاد إلى الإسلام أنه لا يلزمه قضاء ما فاته من الصلاة ولا غرم ما أصاب من جنايات ومتلفات ، وعن يلزم ذلك كله وهو ما نسبه الشافعي ابن العربي إلى بخلاف ما نسبه إليه الشافعي ابن المنذر كما تقدم ، وعن أبي حنيفة يسقط عنه كل حق هو لله ولا يسقط عنه حق الناس ، وحجة الجميع هذه الآية تعميما وتخصيصا بمخصصات أخرى .
وفي قوله - تعالى - إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف محسن بديعي وهو الاتزان لأنه في ميزان الرجز .
والمراد بالعود الرجوع إلى ما هم فيه من مناوأة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، والتجهز لحربهم . مثل صنعهم يوم بدر . وليس المراد عودهم إلى الكفر بعد الانتهاء لأن مقابلته بقوله إن ينتهوا تقتضي أنه ترديد بين حالتين لبيان ما يترتب على كل واحدة منهما ، وهذا كقول العرب بعضهم لبعض : " أسلم أنت أم حرب " ولأن الذين كفروا [ ص: 346 ] لما يفارقوا الكفر بعد فلا يكون المراد بالعود عودهم إلى الكفر بعد أن يسلموا .
والسنة العادة المألوفة والسيرة ، وقد تقدم في قوله - تعالى - قد خلت من قبلكم سنن في آل عمران .
ومعنى مضت تقدمت وعرفها الناس .
وهذا الخبر تعريض بالوعيد بأنهم سيلقون ما لقيه الأولون ، والقرينة على إرادة التعريض بالوعيد أن ظاهر الإخبار بمضي سنة الأولين هو من الإخبار بشيء معلوم للمخبرين به ، وبهذا الاعتبار حسن تأكيده بقد إذ المراد تأكيد المعنى التعريضي .
وبهذا الاعتبار صح وقوع قوله " فقد مضت سنة الأولين " جزاء للشرط ، ولولا ذلك لما كان بين الشرط وجوابه ملازمة في شيء .
والأولون : السابقون المتقدمون في حالة ، والمراد هنا الأمم التي سبقت وعرفوا أخبارهم أنهم كذبوا رسل الله فلقوا عذاب الاستئصال مثل عاد وثمود قال - تعالى - فهل ينظرون إلا سنة الأولين .
ويجوز أن المراد بالأولين أيضا السابقون للمخاطبين من قومهم من أهل مكة الذين استأصلهم السيف يوم بدر . وفي كل أولئك عبرة للحاضرين الباقين ، وتهديد بأن يصيروا مصيرهم .