هذا تفصيل لما رد به مقالة قومه إجمالا ، فهم استدلوا على نفي نبوته بأنهم لم يروا له فضلا عليهم ، فجاء هو في جوابهم بالقول بالموجب أنه لم يدع فضلا غير الوحي إليه كما حكى الله عن أنبيائه - عليهم السلام - في قوله : قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، ولذلك نفى أن يكون قد ادعى غير ذلك . واقتصر على بعض ما يتوهمونه من لوازم النبوة وهو أن يكون أغنى منهم ، أو أن يعلم الأمور الغائبة . والقول بمعنى الدعوى ، وإنما نفى ذلك بصيغة المضارع للدلالة على أنه منتف عنه ذلك في الحال ، فأما انتفاؤه في الماضي فمعلوم لديهم حيث لم يقله ، أي لا تظنوا أني مضمر ادعاء ذلك وإن لم أقله .
والخزائن : جمع خزانة - بكسر الخاء - وهي بيت أو مشكاة كبيرة يجعل لها باب ، وذلك لخزن المال أو الطعام ، أي حفظه من الضياع . وذكر الخزائن هنا استعارة مكنية ; شبهت النعم والأشياء النافعة بالأموال النفيسة التي تدخر في الخزائن ، ورمز إلى ذلك بذكر ما هو من روادف المشبه به وهو الخزائن . وإضافة خزائن إلى الله لاختصاص الله بها .
[ ص: 58 ] وأما قوله : ولا أقول إني ملك فنفي لشبهة قولهم ما نراك إلا بشرا مثلنا ولذلك أعاد معه فعل القول ; لأنه إبطال دعوى أخرى ألصقوها به ، وتأكيده بـ إن لأنه قول لا يقوله قائله إلا مؤكدا لشدة إنكاره لو ادعاه مدع ، فلما نفاه نفى صيغة إثباته . ولما أراد إبطال قولهم وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا أبطله بطريقة التغليط لأنهم جعلوا ضعفهم وفقرهم سببا لانتفاء فضلهم ، فأبطله بأن ضعفهم ليس بحائل بينهم وبين الخير من الله إذ لا ارتباط بين الضعف في الأمور الدنيوية من فقر وقلة وبين الحرمان من نوال الكمالات النفسانية والدينية ، وأعاد معه فعل القول لأنه أراد من القول معنى غير المراد منه فيما قيل ، فالقول هنا كناية عن الاعتقاد لأن المرء إنما يقول ما يعتقد ، وهي تعريضية بالمخاطبين لأنهم يضمرون ذلك ويقدرونه .
والازدراء : افتعال من الزري وهو الاحتقار وإلصاق العيب ، فأصله : ازتراء ، قلبت تاء الافتعال دالا بعد الزاي كما قلبت في الازدياد .
وإسناد الازدراء إلى الأعين وإنما هو من أفعال النفس مجاز عقلي لأن الأعين سبب الازدراء غالبا ; لأن الازدراء ينشأ عن مشاهدة الصفات الحقيرة عند الناظر . ونظيره إسناد الفرق إلى الأعين في قول الأعشى :
كذلك فافعل ما حييت إذا شتوا وأقدم إذا ما أعين الناس تفرق
ونظيره قوله - تعالى : سحروا أعين الناس وإنما سحروا عقولهم ولكن الأعين ترى حركات السحرة فتؤثر رؤيتها على عقول المبصرين .
وجيء في النفي بحرف لن الدالة على تأكيد نفي الفعل في المستقبل تعريضا بقومه لأنهم جعلوا ضعف أتباع نوح - عليه السلام - وفقرهم دليلا على انتفاء الخير عنهم فاقتضى دوام ذلك ما داموا ضعفاء فقراء ، فلسان حالهم يقول : لن ينالوا خيرا ، فكان رده عليهم بأنه لا يقول لن يؤتيهم الله خيرا .
[ ص: 59 ] وجملة الله أعلم بما في أنفسهم تعليل لنفي أن يقول لن يؤتيهم الله خيرا . ولذلك فصلت الجملة ولم تعطف ، ومعنى الله أعلم بما في أنفسهم أن أمرهم موكول إلى ربهم الذي علم ما أودعه في نفوسهم من الخير والذي وفقهم إلى الإيمان ، أي فهو يعاملهم بما يعلم منهم . وتعليقه بالنفوس تنبيه لقومه على غلطهم في قولهم وما نرى لكم علينا من فضل بأنهم نظروا إلى الجانب الجثماني الدنيوي وجهلوا الفضائل والكمالات النفسانية والعطايا اللدنية التي الله أعلم بها .
واسم التفضيل هنا مسلوب المفاضلة مقصود منه شدة العلم .
وجملة ( إني إذا لمن الظالمين ) تعليل ثان لنفي أن يقول ( لن يوتيهم الله خيرا ) . و إذن حرف جواب وجزاء مجازاة للقول ، أي لو قلت ذلك لكنت من الظالمين ، وذلك أنه يظلمهم بالقضاء عليهم بما لا يعلم من حقيقتهم ، ويظلم نفسه باقتحام القول بما لا يصدق .
وقوله : من الظالمين أبلغ في إثبات الظلم من : إني ظالم ، كما تقدم في قوله - تعالى : قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين في سورة البقرة .
وأكده بثلاث مؤكدات : إن ولام الابتداء وحرف الجزاء ، تحقيقا لظلم الذين رموا المؤمنين بالرذالة وسلبوا الفضل عنهم ; لأنه أراد التعريض بقومه في ذلك . وسيجيء في سورة الشعراء ذكر موقف آخر لنوح - عليه السلام - مع قومه في شأن هؤلاء المؤمنين .