وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون
انتقال لحكاية مقالة أخرى من شنيع مقالاتهم في كفرهم ، واستدلال من أدلة تكذيبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر به إظهار لدعوته في مظهر المحال ، وذلك إنكارهم الحياة الثانية . وذلك لم يتقدم له ذكر في هذه السورة سوى الاستطراد بقوله والبعث بعد الموت فالذين لا يؤمنون بالآخرة . والقسم على نفي البعث أرادوا به الدلالة على يقينهم بانتفائه . وتقدم القول في جهد أيمانهم عند قوله تعالى أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم في سورة العقود .
وإنما أيقنوا بذلك وأقسموا عليه ; لأنهم توهموا أن سلامة الأجسام وعدم انخرامها شرط لقبولها الحياة ، وقد رأوا أجساد الموتى معرضة للاضمحلال فكيف تعاد كما كانت .
وجملة لا يبعث الله من يموت عطف بيان لجملة ( أقسموا ) وهي ما أقسموا عليه .
والبعث تقدم آنفا في قوله تعالى وما يشعرون أيان يبعثون .
[ ص: 154 ] والعدول عن ( الموتى ) إلى ( من يموت ) لقصد إيذان الصلة بتعليل نفي البعث ، فإن الصلة أقوى دلالة على التعليل من دلالة المشتق على علية الاشتقاق ، فهم جعلوا الاضمحلال منافيا لإعادة الحياة ، كما حكي عنهم وقال الذين كفروا أئذا كنا ترابا وآباؤنا أإنا لمخرجون .
و ( بلى ) حرف لإبطال النفي في الخبر والاستفهام ، أي بل يبعثهم الله ، وانتصب ( وعدا ) على المفعول المطلق مؤكدا لما دل عليه حرف الإبطال من حصول البعث بعد الموت ، ويسمى هذا النوع من المفعول المطلق مؤكدا لنفسه ، أي مؤكدا لمعنى فعل هو عين معنى المفعول المطلق .
و ( عليه ) صفة لـ ( وعدا ) ، أي وعدا كالواجب عليه في أنه لا يقبل الخلف ، ففي الكلام استعارة مكنية ، شبه الوعد الذي وعده الله بمحض إرادته واختياره بالحق الواجب عليه ورمز إليه بحرف الاستعلاء .
و ( حقا ) صفة ثانية لـ ( وعدا ) ، والحق هنا بمعنى الصدق الذي لا يتخلف ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن في سورة براءة .
والمراد بأكثر الناس ( المشركون ) ، وهم يومئذ أكثر الناس ، ومعنى لا يعلمون أنهم لا يعلمون كيفية ذلك فيقيمون من الاستبعاد دليل استحالة حصول البعث بعد الفناء .
والاستدراك ناشئ عن جعله وعدا على الله حقا ، إذ يتوهم السامع أن مثل ذلك لا يجهله أحد فجاء الاستدراك لرفع هذا التوهم ; ولأن جملة وعدا عليه حقا تقتضي إمكان وقوعه ، والناس يستبعدون ذلك .