[ ص: 315 ] وجعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدمة لذلك ; لبيان أن فضل الإسلام فضل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول ، وهذا فضل لم يحظ به دين آخر .
فالمقصود بعد هذا التمهيد ، وهاته المقدمة هو الإفضاء إلى قوله ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا ، وقد قال تعالى في الآية الأخرى ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل .
والأصل الأصيل الذي تفرع عنه وعن فروعه هذا الانتقال ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيرا مما أنعم الله به على الناس .
ونظرهم باليهود إذ حرم الله عليهم أشياء ، تشديدا عليهم ، فجاء بهذا الانتقال ; لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها ، وأن الحنيفية هي ما جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعا من الطيبات إلا ما بين الله تحريمه في آية قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية .
وقد إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمة ، والأمة : الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة ، وتقدم في قوله تعالى وصف كان الناس أمة واحدة في سورة البقرة .
ووصف إبراهيم عليه السلام بذلك وصف بديع لمعنيين : أحدهما : أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمة كاملة ، وهذا كقولهم : أنت الرجل كل الرجل ، وقال : البحتري
ولم أر أمثال الرجال تـفـاوتـا لدى الفضل حتى عد ألف بواحد
وعن رضي الله عنه أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال : عمر بن الخطاب معاذ أمة قانت لله .[ ص: 316 ] والثاني : أنه كان أمة وحده في الدين ; لأنه لم يكن في وقت بعثته موحد لله غيره ، فهو الذي أحيا الله به التوحيد ، وبثه في الأمم والأقطار ، وبنى له معلما عظيما ، وهو الكعبة ، ودعا الناس إلى حجه ; لإشاعة ذكره بين الأمم ، ولم يزل باقيا على العصور ، وهذا كقول النبيء صلى الله عليه وسلم في خطر بن مالك الكاهن وأنه يبعث يوم القيامة أمة وحده ، رواه السهيلي في الروض الأنف ، ورأيت رواية أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عمرو بن نفيل .
والقانت : المطيع ، وقد تقدم في قوله تعالى وقوموا لله قانتين في سورة البقرة .
واللام لام التقوية ; لأن العامل فرع في العمل .
والحنيف : المجانب للباطل ، وقد تقدم عند قوله قل بل ملة إبراهيم حنيفا في سورة البقرة ، والأسماء الثلاثة أخبار ( كان ) وهي فضائل .
ولم يك من المشركين اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو إبراهيم عليه السلام ، وقد صوروا دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة ، كما جاء في حديث غزوة الفتح ، فليس قوله ولم يك من المشركين مسوقا مساق الثناء على إبراهيم ، ولكنه تنزيه له عما اختلقه عليه المبطلون ، فوزانه وزان قوله وما صاحبكم بمجنون ، وهو كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضده مثل وأضل فرعون قومه وما هدى .
ونفي كونه من المشركين بحرف ( لم ) لأن ( لم ) تقلب زمن الفعل المضارع إلى المضي ، فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي ، وتفيد تجدد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان : انتفاء مدلول الفعل بمادته ، وتجدد الانتفاء بصيغته ، فيفيد أن إبراهيم عليه [ ص: 317 ] السلام لم يتلبس بالإشراك قط ، فإن إبراهيم عليه السلام لم يشرك بالله منذ صار مميزا ، وأنه لا يتلبس بالإشراك أبدا .
و شاكرا لأنعمه خبر رابع عن ( كان ) ، وهو مدح لإبراهيم عليه السلام ، وتعريض بذريته الذين أشركوا ، وكفروا نعمة الله مقابل قوله فكفرت بأنعم الله ، وتقدم قريبا الكلام على أنعم الله .
وجملة اجتباه مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن الثناء المتقدم يثير سؤال سائل عن سبب فوز إبراهيم بهذه المحامد ، فيجاب بأن الله اجتباه ، كقوله تعالى الله أعلم حيث يجعل رسالاته .
والاجتباء : الاختيار ، وهو افتعال من جبى إذا جمع ، وتقدم في قوله تعالى واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم في سورة الأنعام .
والهداية إلى الصراط المستقيم : الهداية إلى التوحيد ، ودين الحنيفية .
وضمير ( آتيناه ) التفات من الغيبة إلى التكلم ; تفننا في الأسلوب لتوالي ثلاثة ضمائر غيبة .
والحسنة في الدنيا : كل ما فيه راحة العيش من اطمئنان القلب بالدين ، والصحة ، والسلامة ، وطول العمر ، وسعة الرزق الكافي ، وحسن الذكر بين الناس . وقد تقدم في قوله ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة .
والصلاح : تمام الاستقامة في دين الحق ، واختير هذا الوصف إشارة إلى أن الله أكرمه بإجابة دعوته ، إذ حكى عنه أنه قال رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين .