فهذه الجملة مضمونها مقصود بذاته استفيد بيانها بوقوعها عقب التي قبلها .
والتعريف في الإنسان تعريف الجنس ، وهو يفيد الاستغراق وهو استغراق عرفي ، أي أكثر أفراد الإنسان ; لأن أكثر الناس يومئذ كفار ، وأكثر العرب مشركون ، فالمعنى : إذا أنعمنا على المشركين أعرضوا ، وإذا مسهم الشر يئسوا ، وهذا مقابل حال أهل الإيمان الذين كان القرآن شفاء لأنفسهم ، وشكر النعمة من شيمهم ، والصبر على الضر من خلقهم .
والمراد بالإنعام : إعطاء النعمة ، وليس المراد النعم الكاملة من الإيمان والتوفيق ، كما في قوله صراط الذين أنعمت عليهم ، وقوله مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين والصديقين .
[ ص: 192 ] والإعراض : الصد ، وضد الإقبال ، وتقدم عند قوله تعالى فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء ، وقوله وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم في سورة الأنعام .
والنأي : البعد ، وتقدم في قوله تعالى وينأون عنه في سورة الأنعام .
والجانب : الجنب ، وهو الجهة من الجسد التي فيها اليد ، وهما جانبان : يمين ويسار .
والباء في قوله بجانبه للمصاحبة ، أي بعد مصاحبا لجانبه ، أي مبعدا جانبه ، والبعد بالجانب تمثيل الإجفال من الشيء ، قال عنترة :
وكأنما ينأى بجانب دفها ال وحشي من هزج العشي مؤوم
فالمفاد من قوله ونأى بجانبه صد عن العبادة والشكر ، وهذا غير المفاد من معنى أعرض فليس تأكيدا له ، فالمعنى : أعرض وتباعد .وحذف متعلق أعرض ونأى لدلالة المقام عليه من قوله أنعمنا على الإنسان ، أي أعرض عنا وأجفل منا ، أي من عبادتنا وأمرنا ونهينا .
وقرأ الجمهور ونأى بهمزة بعد النون ، وألف بعد الهمزة .
وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان وأبو جعفر ( وناء ) بألف بعد النون ثم همزة ، وهذا من القلب المكاني ; لأن العرب قد يتطلبون تخفيف الهمزة إذا وقعت بعد حرف صحيح ، وبعدها مدة فيقلبون المدة قبل الهمزة ; لأن وقوعها بعد المد أخف ، من ذلك قولهم : راء في رأى ، وقولهم : آرام في أرآم ، جمع رئم ، وقيل : ناء في هذه القراءة بمعنى ثقل ، أي عن الشكر ، أي في معنى قوله تعالى ولكنه أخلد إلى الأرض .
[ ص: 193 ] وجملة وإذا مسه الشر كان يئوسا احتراس من أن يتوهم السامع من التقييد بقوله وإذا أنعمنا أنه إذا زالت عنه النعمة صلح حاله فبين أن ، فإذا زالت النعمة عنه لم يقلع عن الشرك والكفر ويتب إلى الله ، ولكنه ييأس من الخير ، ويبقى حنقا ضيق الصدر لا يعرف كيف يتدارك أمره . حاله ملازم لنكران الجميل في السراء والضراء
ولا تعارض بين هذه الآية وبين قوله في سورة فصلت وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض كما سيأتي هنالك .
ودل قوله كان يئوسا على قوة يأسه ; إذ صيغ له مثال المبالغة ، وأقحم معه فعل ( كان ) الدال على رسوخ الفعل ، تعجيبا من حاله في وقت مس الضر إياه ;لأن حالة الضر أدعى إلى الفكرة في وسائل دفعه ، بخلاف حالة الإعراض في وقت النعمة ، فإنها حالة لا يستغرب فيها الازدهاء لما هو فيه من النعمة .