لما شاعت قصة أهل الكهف حين نزل بها القرآن صارت حديث النوادي ، فكانت مثار تخرصات في معرفة عددهم ، وحصر مدة مكثهم في كهفهم ، وربما أملى عليهم المتنصرة من العرب في ذلك قصصا ، وقد نبههم القرآن إلى ذلك وأبهم [ ص: 291 ] على عموم الناس الإعلام بذلك لحكمة ، وهي أن تتعود الأمة بترك الاشتغال فيما ليست منه فائدة للدين أو للناس ، ودل علم الاستقبال على أن الناس لا يزالون يخوضون في ذلك .
وضمير " يقولون " عائد إلى غير مذكور ; لأنه معلوم من المقام ، أي يقول الناس أو المسلمون ، إذ ليس في هذا القول حرج ، ولكنهم نبهوا إلى أن جميعه لا حجة لهم فيه ، ومعنى ( سين ) الاستقبال سار إلى الفعلين المعطوفين على الفعل المقترن بالسين ، وليس في الانتهاء إلى عدد الثمانية إيماء إلى أنه العدة في نفس الأمر .
وقد أعلم الله أن قليلا من الخلق يعلمون عدتهم ، وهم من أطلعهم الله على ذلك ، وفي مقدمتهم محمد صلى الله عليه وسلم ; لأن قصتهم جاءت على لسانه ، فلا شك أن الله أطلعه على عدتهم ، وروي أن قال : أنا من القليل . ابن عباس
وكأن أقوال الناس تمالأت على أن عدتهم فردية ; تيمنا بعدد المفرد ، وإلا فلا دليل على ذلك دون غيره ، وقد سمى الله قولهم ذلك " رجما بالغيب " .
والرجم حقيقته : الرمي بحجر ونحوه ، واستعير هنا لرمي الكلام من غير روية ولا تثبت ، قال زهير :
وما هو عنها بالحديث المرجم
والباء في بالغيب للتعدية ، كأنهم لما تكلموا عن أمر غائب كانوا يرجمون به .وكل جملة رابعهم كلبهم وجملة سادسهم كلبهم في موضع الصفة لاسم العدد الذي قبلها ، أو موضع الخبر الثاني عن المبتدأ المحذوف .
وجملة وثامنهم كلبهم الواو فيها واو الحال ، وهي في موضع الحال من المبتدأ المحذوف ، أو من اسم العدد الذي هو خبر المبتدأ ، وهو إن كان نكرة [ ص: 292 ] فإن وقوعه خبر على معرفة أكسبه تعريفا ، على أن وقوع الحال جملة مقترنة بالواو قد عد من مسوغات مجيء الحال من النكرة ، ولا وجه لجعل الواو فيه داخلة على جملة هي صفة للنكرة ; لقصد تأكيد لصوق الصفة بالموصوف ، كما ذهب إليه في الكشاف ; لأنه غير معروف في فصيح الكلام : وقد رده السكاكي في المفتاح ، وغير واحد .
ومن غرائب فتن الابتكار في معاني القرآن قول من زعم : إن هذه الواو ، واو الثمانية ، وهو منسوب في كتب العربية إلى بعض ضعفة النحاة ، ولم يعين مبتكره ، وقد عد ابن هشام في مغني اللبيب من القائلين بذلك الحريري ، وبعض ضعفة النحاة ; كابن خالويه ، والثعلبي من المفسرين .
قلت : أقدم هؤلاء هو ابن خالويه النحوي المتوفى سنة 370 فهو المقصود ببعض ضعفة النحاة ، وأحسب وصفه بهذا الوصف أخذه ابن هشام من كلام ابن المنير في الانتصاف على الكشاف من سورة التحريم ، إذ روي عن : أن ابن الحاجب القاضي الفاضل كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى ثيبات وأبكارا في سورة التحريم هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة " واو الثمانية " ، وكان القاضي يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة ، أحدها : التي في الصفة الثامنة في قوله تعالى والناهون عن المنكر في سورة " براءة " ، والثانية : في قوله وثامنهم كلبهم ، والثالثة : في قوله وفتحت أبوابها في الزمر ، قال : ولم يزل الفاضل يستحسن ذلك من نفسه إلى أن ذكره يوما بحضرة ابن الحاجب أبي الجود النحوي المقري ، فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره من دعاء الضرورة إلى الإتيان بالواو هنا ; لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد إلى آخره . الزمخشري
وقال في المغني : سبق الثعلبي الفاضل إلى عدها من المواضع في تفسيره ، وأقول : لعل الفاضل لم يطلع عليه ، وزاد الثعلبي قوله تعالى سبع ليال وثمانية أيام حسوما في سورة الحاقة حيث قرن اسم عدد " ثمانية " بحرف الواو .
[ ص: 293 ] ومن غريب الاتفاق أن كان لحقيقة الثمانية اعتلاق بالمواضع الخمسة المذكورة من القرآن ; إما بلفظه كما هنا وآية " الحاقة " ، وإما بالانتهاء إليه كما في آية " براءة " وآية التحريم ، وإما بكون مسماه معدودا بعدد الثمانية كما في آية الزمر ، ولقد يعد الانتباه إلى ذلك من اللطائف ، ولا يبلغ أن يكون من المعارف ، وإذا كانت كذلك ، ولم يكن لها ضابط مضبوط فليس من البعيد عد القاضي الفاضل منها آية سورة التحريم ; لأنها صادفت الثامنة في الذكر ، وإن لم تكن ثامنة من صفات الموصوفين ، وكذلك لعد آية سورة الحاقة ، ومثل هذه اللطائف كالزهرة تشم ولا تحك .
وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى والناهون عن المنكر في سورة " براءة " .
وجملة قل ربي أعلم بعدتهم مستأنفة استئنافا بيانيا لما تثيره جملة سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم إلى آخرها من ترقب تعيين ما يعتمد عليه من أمر عدتهم ، فأجيب بأن يحال العلم بذلك على علام الغيوب ، وإسناد اسم التفضيل إلى الله تعالى يفيد أن علم الله بعدتهم هو العلم الكامل ، وأن علم غيره مجرد ظن وحدس قد يصادف الواقع ، وقد لا يصادفه .
وجملة ما يعلمهم إلا قليل كذلك مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن الإخبار عن الله بأنه الأعلم يثير في نفوس السامعين أن يسألوا : هل يكون بعض الناس عالما بعدتهم علما غير كامل ، فأجيب بأن قليلا من الناس يعلمون ذلك ، ولا محالة هم من أطلعهم الله على ذلك بوحي ، وعلى كل حال فهم لا يوصفون بالأغلبية ; لأن علمهم مكتسب من جهة الله الأعلم بذلك .