[ ص: 98 ] قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيئا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا .
كلام عيسى هذا مما أهملته أناجيل النصارى لأنهم طووا خبر وصولها إلى أهلها بعد وضعها ، وهو طي يتعجب منه . ويدل على أنها كتبت في أحوال غير مضبوطة ، فأطلع الله تعالى عليه نبيئه - صلى الله عليه وسلم - .
عيسى لأن الله علم بأن قوما سيقولون : أنه ابن الله . والابتداء بوصف العبودية لله ألقاه الله على لسان
والتعبير عن إيتاء الكتاب بفعل المضي مراد به أن الله قدر إيتاءه إياه ، أي قدر أن يؤتيني الكتاب .
والكتاب : الشريعة التي من شأنها أن تكتب لئلا يقع فيها تغيير . فإطلاق الكتاب على شريعة عيسى كإطلاق الكتاب على القرآن .
والمراد بالكتاب الإنجيل وهو ما كتب من الوحي الذي خاطب الله به عيسى .
ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فيكون الإيتاء إيتاء علم ما في التوراة كقوله تعالى يا يحيى خذ الكتاب بقوة ، فيكون قوله ( وجعلني نبيئا ) ارتقاء في المراتب التي آتاه الله إياها .
والقول في التعبير عنه بالماضي كالقول في قوله و آتاني الكتاب .
[ ص: 99 ] والمبارك : الذي تقارن البركة أحواله في أعماله ومحاورته ونحو ذلك ، لأن المبارك اسم مفعول من باركه ، إذا جعله ذا بركة . أو من بارك فيه ، إذا جعل البركة معه .
والبركة : الخير واليمن .
ذلك أن الله أرسله برحمة لبني إسرائيل ليحل لهم بعض الذي حرم عليهم وليدعوهم إلى مكارم الأخلاق بعد أن قست قلوبهم وغيروا من دينهم ، فهذه أعظم بركة تقارنه . ومن بركته أن من خصبها واهتداء أهلها وتوفيقهم إلى الخير . ولذلك كان إذا لقيه الجهلة والقساة والمفسدون انقلبوا صالحين وانفتحت قلوبهم للإيمان والحكمة . ولذلك ترى أكثر الحواريين كانوا من عامة الأميين من صيادين وعشارين فصاروا دعاة هدى وفاضت ألسنتهم بالحكمة . جعل الله حلوله في المكان سببا لخير أهل تلك البقعة
وبهذا يظهر أن كونه مباركا أعم من كونه نبيئا عموما وجهيا ، فلم يكن في قوله ( وجعلني نبيا ) غنية عن قوله وجعلني مباركا .
والتعميم الذي في قوله أين ما كنت تعميم للأمكنة ، أي لا تقتصر بركته على كونه في الهيكل بالمقدس أو في مجمع أهل بلده ، بل هو حيثما حل تحل معه البركة .
والوصاية : الأمر المؤكد بعمل مستقبل ، أي قدر وصيتي بالصلاة والزكاة ، أي أن يأمرني بهما أمرا مؤكدا مستمرا ، فاستعمال صيغة المضي في أوصاني مثل استعمالها في قوله آتاني الكتاب .
والزكاة : الصدقة . والمراد : أن يصلي ويزكي . وهذا أمر خاص به كما أمر نبيئنا - صلى الله عليه وسلم - بقيام الليل ، وقرينة [ ص: 100 ] الخصوص قوله ما دمت حيا لدلالته على استغراق مدة حياته بإيقاع الصلاة والصدقة ، أي أن يصلي ويتصدق في أوقات التمكن من ذلك ، أي غير أوقات الدعوة أو الضرورات .
فالاستغراق المستفاد من قوله ما دمت حيا استغراق عرفي مراد به الكثرة ; وليس المراد الصلاة والصدقة المفروضتين على أمته ، لأن سياق الكلام في عيسى - عليه السلام - ولأنه لم يأت بشرع صلاة زائدة على ما شرع في التوراة . والبر بفتح الباء : اسم بمعنى البار . وتقدم آنفا . وقد خصه الله تعالى بذلك بين قومه ، لأن بر الوالدين كان ضعيفا في أوصاف تميز بها بني إسرائيل يومئذ ، وبخاصة الوالدة لأنها تستضعف ، لأن فرط حنانها ومشقتها قد يجرئان الولد على التساهل في البر بها .
والجبار : المتكبر الغليظ على الناس في معاملتهم . وقد تقدم في سورة هود قوله واتبعوا أمر كل جبار عنيد .
والشقي : الخاسر والذي تكون أحواله كدرة له ومؤلمة ، وهو ضد السعيد . وتقدم عند قوله تعالى فمنهم شقي وسعيد في آخر سورة هود .
ووصف الجبار بالشقي باعتبار مآله في الآخرة وربما في الدنيا .
وقوله والسلام علي يوم ولدت إلى آخره تنويه بكرامته عند الله ، أجراه على لسانه ليعلموا أنه بمحل العناية من ربه ، والقول فيه تقدم في آية ذكر يحيى .
وجيء بالسلام هنا معرفا باللام على الجنس مبالغة في تعلق السلام به حتى كان جنس السلام بأجمعه عليه . وهذا مؤذن [ ص: 101 ] بتفضيله على يحيى إذ قيل في شأنه وسلام عليه يوم ولد ، وذلك هو الفرق بين المعرف بلام الجنس وبين النكرة .
ويجوز جعل اللام للعهد ، أي سلام إليه ، وهو كناية عن تكريم الله عبده بالثناء عليه في الملأ الأعلى وبالأمر بكرامته .
ومن هذا القبيل - في قوله تعالى السلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ، وما أمرنا به في التشهد في الصلاة من قول المتشهد السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته .
ومؤذن أيضا بتمهيد التعريض باليهود إذ طعنوا فيه وشتموه في الأحوال الثلاثة ، فقالوا : ولد من زنى ، وقالوا : مات مصلوبا ، وقالوا : يحشر مع الملاحدة والكفرة ، لأنهم يزعمون أنه كفر بأحكام من التوراة .