ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء
موقع هذه الآية غامض ، ومفادها كذلك . ولنبدأ ببيان موقعها ثم نتبعه ببيان معناها فإن بين موقعها ومعناها اتصالا . [ ص: 218 ] فيحتمل أن يكون موقعها استئنافا ابتدائيا أريد به ذكر فريق ثالث غير الفريقين المتقدمين في قوله تعالى ومن الناس من يجادل في الله بغير علم الآية وقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف . وهذا الفريق الثالث جماعة أسلموا واستبطأوا نصر المسلمين فأيسوا منه وغاظهم تعجلهم للدخول في الإسلام وأن لم يتريثوا في ذلك وهؤلاء هم المنافقون . ويحتمل أن يكون موقعها تذييلا لقوله ومن الناس من يعبد الله على حرف الآية بعد أن اعترض بين تلك الجملة وبين هاته بجمل أخرى فيكون المراد : أن الفريق الذين يعبدون الله على حرف والمخبر عنهم بقوله خسر الدنيا والآخرة هم قوم يظنون أن الله لا ينصرهم في الدنيا ولا في الآخرة إن بقوا على الإسلام . فأما ظنهم انتفاء النصر في الدنيا فلأنهم قد أيسوا من النصر استبطاء . وأما في الآخرة فلأنهم لا يؤمنون بالبعث ومن أجل هذا علق فعل ( لن ينصره ) بالمجرور بقوله في الدنيا والآخرة إيماء إلى كونه متعلق الخسران في قوله خسر الدنيا والآخرة . فإن عدم النصر خسران في الدنيا بحصول ضده ، وفي الآخرة باستحالة وقوع الجزاء في الآخرة حسب اعتقاد كفرهم . وهؤلاء مشركون مترددون . ويترجح هذا الاحتمال بتغيير أسلوب الكلام ، فلم يعطف بالواو كما عطف قوله ومن الناس من يعبد الله ولم تورد فيه جملة ( ومن الناس ) كما أوردت في ذكر الفريقين السابقين ويكون المقصود من الآية تهديد هذا الفريق . فيكون التعبير عن هذا الفريق بقوله ( من كان يظن ) إلخ إظهارا في مقام الإضمار ، فإن مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير ذلك الفريق فيقال بعد قوله إن الله يفعل ما يريد [ ص: 219 ] فليمدد بسبب إلى السماء إلخ عائدا الضمير المستتر في قوله ( فليمدد ) على من يعبد الله على حرف . والعدول عن الإضمار إلى الإظهار لوجهين . أحدهما : بعد معاد الضمير . وثانيهما التنبيه على أن عبادته الله على حرف ناشئة عن ظنه أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة إن صمم على الاستمرار في اتباع الإسلام لأنه غير واثق بوعد النصر للمسلمين . وضمير النصب في ( ينصره ) عائد إلى من يعبد الله على حرف على كلا الاحتمالين . واسم ( السماء ) مراد به المعنى المشهور على كلا الاحتمالين أيضا أخذا بما رواه القرطبي عن ) أنه قال في قوله تعالى ابن زيد ( يعني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم فليمدد بسبب إلى السماء قال : هي السماء المعروفة ، يعني المظلة . فالمعنى : فلينط حبلا بالسماء مربوطا به ثم يقطعه فيسقط من السماء فيتمزق كل ممزق فلا يغني عنه فعله شيئا من إزالة غيظه . ومفعول ( يقطع ) محذوف لدلالة المقام عليه . والتقدير : ثم ليقطعه ، أي ليقطع السبب . والأمر في قوله فليمدد بسبب إلى السماء للتعجيز ، فيعلم أن تعليق الجواب على حصول شرط لا يقع كقوله تعالى يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا . وأما استخراج معنى الآية من نظمها فإنها نسجت على إيجاز بديع . شبهت حالة استبطان هذا الفريق الكفر وإظهارهم الإسلام على حنق ، أو حالة ترددهم بين البقاء في المسلمين وبين الرجوع إلى الكفار بحالة المغتاظ مما صنع فقيل لهم : عليكم أن تفعلوا [ ص: 220 ] ما يفعله أمثالكم ممن ملأهم الغيظ وضاقت عليهم سبل الانفراج ، فامددوا حبلا بأقصى ما يمد إليه حبل ، وتعلقوا به في أعلى مكان ثم اقطعوه تخروا إلى الأرض . وذلك تهكم بهم في أنهم لا يجدون غنى في شيء من أفعالهم ، وإنذار باستمرار فتنتهم في الدنيا مع الخسران في الآخرة .
ويحتمل أن تكون الآية مشيرة إلى فريق آخر أسلموا في مدة ضعف الإسلام واستبطأوا النصر فضاقت صدورهم فخطرت لهم خواطر شيطانية أن يتركوا الإسلام ويرجعوا إلى الكفر فزجرهم الله وهددهم بأنهم إن كانوا آيسين من النصر في الدنيا ومرتابين في نيل ثواب الآخرة فإن ارتدادهم عن الإسلام لا يضر الله ولا رسوله ولا يكيد الدين وإن شاءوا فليختنقوا فينظروا هل يزيل الاختناق غيظهم . ولعل هؤلاء من المنافقين . فموقع الآية على هذا الوجه موقع الاستئناف الابتدائي لذكر فريق آخر يشبه من يعبد الله على حرف . والمناسبة ظاهرة . ويجيء على هذا الوجه أن يكون ضمير ينصره الله عائدا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا مروي عن واختاره ابن عباس الفراء . ويستتبع ذلك في كل الوجوه تعريض بالتنبيه لخلص المؤمنين أن لا ييأسوا من نصر الله في الدنيا والآخرة أو في الآخرة فقط . قال تعالى والزجاج من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين الآية .
[ ص: 221 ] والسبب : الحبل . وتقدم في قوله وتقطعت بهم الأسباب في سورة البقرة .
والقطع : قيل يطلق على الاختناق لأنه يقطع الأنفاس .
و ( ما ) مصدرية ، أي غيظه . والاستفهام بـ ( هل ) إنكاري . وهو معلق فعل ( فلينظر ) عن العمل . والنظر قلبي . وسمي الفعل كيدا لأنه يشبه الكيد في أنه فعله لأن يكيد المسلمين على وجه الاستعارة التهكمية فإنه لا يكيد به المسلمين بل يضر به نفسه .
وقرأ الجمهور " ثم ليقطع " بسكون لام " ليقطع " وهو لام الأمر . فإذا كان في أول الكلمة كان مكسورا ، وإذا وقع بعد عاطف غير ( ثم ) كان ساكنا مثل ولتكن منكم أمة . فإذا وقع بعد ( ثم ) جاز فيه الوجهان . وقرأه ابن عامر ، وأبو عمرو عن وورش نافع ، وأبو جعفر ورويس عن يعقوب بكسر اللام .