عطف على ( باشروهن ) ، والخيط سلك الكتان أو الصوف أو غيرهما ، يلفق به بين الثياب بشده بإبرة أو مخيط ، يقال خاط الثوب وخيطه . وفي خبر قبور بني أمية أنهم وجدوا معاوية رضي الله عنه في قبره كالخيط ، والخيط هنا يراد به الشعاع الممتد في الظلام والسواد الممتد بجانبه قال أبو دؤاد من شعراء الجاهلية :
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا
وقوله : ( من الفجر ) " من " ابتدائية أي : الشعاع الناشئ عن الفجر ، وقيل : بيانية . وقيل : تبعيضية . وكذلك قول أبي دؤاد : من الصبح ؛ لأن الخيط شائع في السلك الذي يخاط به فهو قرينة إحدى المعنيين للمشترك ، وجعله في الكشاف تشبيها بليغا ، فلعله لم يثبت عنده اشتهار إطلاقه على هذا المعنى في غير بعض الكلام ، كالآية وبيت أبي دؤاد ، وعندي أن القرآن ما أطلقه إلا لكونه كالنص في المعنى المراد في اللغة الفصحى دون إرادة التشبيه ؛ لأنه ليس بتشبيه واضح .
[ ص: 184 ] وقد جيء في الغاية بحتى ، وبالتبين للدلالة على أن الإمساك يكون عند اتضاح الفجر للناظر وهو الفجر الصادق ، ثم قوله تعالى : ( حتى يتبين ) تحديد لنهاية وقت الإفطار بصريح المنطوق ، وقد علم منه لا محالة أنه ، إذ ليس في زمان رمضان إلا صوم وفطر وانتهاء أحدهما مبدأ الآخر ، فكان قوله : ابتداء زمن الصوم أتموا الصيام إلى الليل بيانا لنهاية وقت الصيام ، ولذلك قال تعالى : ( ثم أتموا ) ولم يقل : ( ثم صوموا ) لأنهم صائمون من قبل .
و ( إلى الليل ) غاية اختير لها ( إلى ) للدلالة على لأن " إلى " تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل . تعجيل الفطر عند غروب الشمس
واعلم أن " ثم " في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ؛ لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة احتجاجا لمذهب تأخير النية عن الفجر أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الضحوة الكبرى .
بناء على أن " ثم " للتراخي ، وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه فكأنه قال : ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل ، فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر ، وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة - غفلة عن معنى التراخي في عطف " ثم " للجمل .
هذا وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم قال : لما نزلت عدي بن حاتم حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرت له ذلك فقال رسول الله إن وسادك لعريض ، وفي رواية : عن . إنك لعريض القفا ، وإنما ذلك سواد الليل وبياض النهار
ورويا عن قال : نزلت سهل بن سعد وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد من الفجر فيظهر من حديث أن مثل ما عمله سهل بن سعد قد كان عمله غيره من قبله بمدة طويلة ، فإن عدي بن حاتم عديا أسلم سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فرض [ ص: 185 ] سنة اثنتين ولا يعقل أن يبقى المسلمون سبع أو ثماني سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث على أن يكون ما فيه وقع في أول مدة شرع الصيام ، ومحمل حديث سهل بن سعد أن عدي بن حاتم عديا وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه من تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن ، عن عبد الله بن إدريس حصين ، عن ، عن الشعبي عدي أنه قال : لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبل فرض رمضان ؛ أي : صوم عاشوراء أو صوم النذر وفي صوم التطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها سهل بن سعد من الفجر علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حدث مثل ذلك . لعدي بن حاتم
وحديث سهل ، لا شبهة في صحة سنده إلا أنه يحتمل أن يكون قوله فيه : ولم ينزل من الفجر وقوله : فأنزل الله بعد ذلك من الفجر مرويا بالمعنى ، فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ؛ لأنه لم يقع في الصحيحين إلا من رواية ، عن سعيد بن أبي مريم أبي غسان ، عن أبي حازم ، عن فقال الراوي : فأنزل بعد أو بعد ذلك ( من الفجر ) وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعد سهل بن سعد وكلوا واشربوا إلى قوله : ( من الفجر ) .
وأياما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ؛ لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدم فهم بعضهم المراد منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود فهموا أشهر معاني الخيط وظنوا أن قوله : ( من الفجر ) متعلق بفعل ( يتبين ) على أن تكون ( من ) تعليلية ؛ أي : يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبيء صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم كناية عن قلة الفطنة ، وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام . إن وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا
وقوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون عطف على قوله : " باشروهن " لقصد أن يكون المعتكف صالحا ، وأجمعوا على أنه لهاته الآية ، واختلفوا في صفة المسجد ، فقيل لا بد من المسجد الجامع ، وقيل مطلق مسجد ، وهو التحقيق وهو مذهب [ ص: 186 ] لا يكون إلا في المسجد مالك وأبي حنيفة رحمهم الله ، وأحكامه في كتب الفقه وليست من غرض هذا المفسر . والشافعي