كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة .
عود إلى معاذيرهم وتعللاتهم الفاسدة ؛ إذ طعنوا في القرآن بأنه نزل منجما وقالوا : لو كان من عند الله لنزل كتابا جملة واحدة . وضمير ( قالوا ) ظاهر في أنه عائد إلى المشركين ، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملة واحدة وإنما كانت وحيا مفرقا ؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليه السلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن ، وما كان الإنجيل إلا أقوالا ينطق بها عيسى عليه السلام في الملأ ، وكذلك الزبور نزل قطعا كثيرة ، فالمشركون نسبوا ذلك أو جهلوا فقالوا : هلا نزل القرآن على محمد جملة واحدة فنعلم أنه رسول الله . وقيل : إن قائل هذا اليهود أو النصارى فإن صح ذلك فهو بهتان منهم ؛ لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة . [ ص: 19 ] فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأمية وحالة الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارا تامة قط .
و ( نزل ) هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم : ( جملة واحدة ) .
وقد جاء قوله : ( كذلك لنثبت به فؤادك ) ردا على طعنهم فهو كلام مستأنف فيه رد لما أرادوه من قولهم : ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) . وعدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاما له بحكمة تنزيله مفرقا ، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسير عليه .
وقوله ( كذلك ) جواب عن قولهم : ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) إشارة إلى الإنزال المفهوم من ( لولا نزل عليه القرآن ) وهو حالة ، أي : أنزلناه كذلك الإنزال ، أي المنجم ، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته ، فاسم الإشارة في محل نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلا عن الفعل . فالتقدير : أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال المنجم . فموقع جملة ( كذلك ) موقع الاستئناف في المحاورة . واللام في ( لنثبت ) متعلقة بالفعل المقدر الذي دل عليه ( كذلك ) . والتثبيت : جعل الشيء ثابتا . والثبات : استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى : ( إنزال القرآن منجما كشجرة طيبة أصلها ثابت ) . ويستعار الثبات لليقين وللاطمئنان بحصول الخير لصاحبه قال تعالى : ( لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا ) ، وهي استعارات شائعة مبنية على تشبيه حصول الاحتمالات في النفس باضطراب الشيء في المكان تشبيه معقول بمحسوس . والفؤاد : هنا العقل . وتثبيته بذلك الإنزال جعله ثابتا في ألفاظه ومعانيه لا يضطرب فيه .
وجاء في بيان بكلمة جامعة وهي ( حكمة إنزال القرآن منجما لنثبت به فؤادك ) ؛ لأن تثبيت الفؤاد يقتضي كل ما به خير للنفس ، فمنه ما قاله : الحكمة في تفريقه أن نقوي بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ؛ لأن المتلقن إنما يقوى قلبه على حفظ العلم يلقى إليه إذا ألقي إليه شيئا بعد شيء وجزءا [ ص: 20 ] عقب جزء ، وما قاله أيضا ( أنه كان ينزل على حسب الدواعي والحوادث وجوابات السائلين ) . اهـ ، أي : فيكونون أوعى لما ينزل فيه ؛ لأنهم بحاجة إلى علمه ، فيكثر العمل بما فيه ، وذلك مما يثبت فؤاد النبيء صلى الله عليه وسلم ويشرح صدره . الزمخشري
وما قاله بعد ذلك ( إن تنزيله مفرقا وتحديهم بأن يأتوا ببعض تلك التفارق كلما نزل شيء منها ، أدخل في الإعجاز وأنور للحجة من أن ينزل كله جملة ) . اهـ .
ومنه ما قاله الجد الوزير رحمه الله : إن القرآن لو لم ينزل منجما على حسب الحوادث لما ظهر في كثير من آياته مطابقتها لمقتضى الحال ومناسبتها للمقام ، وذلك من تمام إعجازها . وقلت : إن نزوله منجما أعون لحفاظه على فهمه وتدبره .
وقوله : ( ورتلناه ترتيلا ) عطف على قوله : ( كذلك ) ، أنزلناه منجما ورتلناه ، والترتيل يوصف به الكلام إذا كان حسن التأليف بين الدلالة . واتفقت أقوال أيمة اللغة على أن هذا الترتيل مأخوذ من قولهم : ثغر مرتل ورتل ، إذا كانت أسنانه مفلجة تشبه نور الأقحوان . ولم يوردوا شاهدا عليه من كلام العرب .
والترتيل يجوز أن يكون حالة لنزول القرآن ، أي نزلناه مفرقا منسقا في ألفاظه ومعانيه غير متراكم ، فهو مفرق في الزمان فإذا كمل إنزال سورة جاءت آياتها مرتبة متناسبة كأنها أنزلت جملة واحدة ، ومفرق في التأليف بأنه مفصل واضح . وفي هذا إشارة إلى أن ذلك من دلائل أنه من عند الله ؛ لأن شأن كلام الناس إذا فرق تأليفه على أزمنة متباعدة أن يعتوره التفكك وعدم تشابه الجمل .
ويجوز أن يراد بـ ( رتلناه ) أمرنا بترتيله ، أي : بقراءته مرتلا ، أي بتمهل بأن لا يعجل في قراءته بأن تبين جميع الحروف والحركات بمهل ، وهو المذكور في سورة المزمل في قوله تعالى : ( ورتل القرآن ترتيلا ) .
و ( ترتيلا ) مصدر منصوب على المفعول المطلق قصد به ما في التنكير من معنى التعظيم فصار المصدر مبينا لنوع الترتيل .