ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل
فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها ، وقد اشتمل الكلام قبلها على لحاق آثار رحمة الله بالناس ، وإصابة السوء إياهم ، وعلى أن ما يصيبهم من السوء بما قدمت أيدي الناس ، وذكر بسط الرزق وتقديره . وتضمن ذلك أن الفرح يلهيهم عن الشكر ، وأن القنوط يلهيهم عن المحاسبة في الأسباب ، فكان الأمر بإيتاء الضعفاء والمنكوبين إرشادا إلى وسائل شكر النعمة عند حصولها شكرا من نوعها واستكشاف الضر عند نزوله ، وإلى أن من الحق التوسعة على المضيق عليهم الرزق ، كما يحب أن يوسع عليه رزقه ; فالخطاب بالأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم باعتبار من معه من المؤمنين ممن يحق عليه الإيتاء وهو الذي بسط له في الرزق ، أي فآتوا ذا القربى حقه بقرينة قوله ذلك خير للذين يريدون وجه الله الآية . ويجوز أن يكون خطابا لغير معين من المؤمنين .
والإيتاء : الإعطاء . وهو مشعر بأن المعطى مال ، ويقوي ذلك وقوع الآية عقب قوله أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء . وصيغة الأمر من قوله فآت مجمل . والأصل في محملها الوجوب مع أن المأمور بإيتائه عبر عنه بأنه حق والأصل في الحق الوجوب . وظاهر الآية يقتضي أن المراد حق في مال المؤتي .
وعن مجاهد وقتادة : صلة الرحم ( أي بالمال ) فرض من الله عز وجل لا [ ص: 103 ] تقبل صدقة أحد ورحمه محتاجة . وقال الحسن : . وقال حق ذي القربى المواساة في اليسر ، وقول ميسور في العسر ابن عطية : معظم ما قصد أمر المعونة بالمال ومنه قول النبيء صلى الله عليه وسلم في المال حق سوى الزكاة وللمساكين وابن السبيل حق ، وبين أن حق هذين في المال اهــ . أقول ولذلك قال جمع كثير : إن هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وقال فريق : لم تنسخ بل للقريب حق في البر على كل حال ، أي لا نسخ في جميع ما تضمنته بل نسخ بعضه بآية المواريث وبقي ما عداه . قلت : وما بقي غير منسوخ مختلفة أحكامه ، وهو مجمل تبينه أدلة أخرى متفرقة من الشريعة .
والقربى : قرب النسب والرحم . وتقدم عند قوله والجار ذي القربى في سورة النساء .
والمسكين تقدم في قوله للفقراء والمساكين في سورة التوبة .
وابن السبيل : المسافر المجتاز بالقرية أو بالحي .
ووقع الحق مجملا والحوالة في بيانه على ما هو متعارف بين الناس وعلى ما يبينه النبيء صلى الله عليه وسلم . على الجملة موكولة إلى حرص المؤمن . وقد أطلق عليها اسم الزكاة في آيات مكية كثيرة ، وقرنت بالصلاة ; فالمراد بها في تلك الآيات الصدقة الواجبة وكانت غير مضبوطة بنصب ثم ضبطت بأصناف ونصب ومقادير مخرجة عنها . قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ( فإن الزكاة حق المال ) . وإنما ضبطت بعد الهجرة فصار ما عداها من الصدقة غير واجب ، وقصر اسم الزكاة على الواجبة وأطلق على ما عداها اسم الصدقة أو البر أو نحو ذلك ، فجماع حق هؤلاء الثلاثة المواساة بالمال ، فدل على أن ذلك واجب لهم . وكان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بفرض الزكاة ، ثم إن لكل صنف من هؤلاء الثلاثة حقا; فحق ذي القربى يختلف بحسب حاجته ; فللغني حقه في الإهداء توددا ، وللمحتاج حق أقوى . والظاهر أن المراد ذو القرابة الضعيف المال الذي لم يبلغ به ضعفه مبلغ المسكنة بقرينة التعبير عنه بالحق ، وبقرينة مقابلته بقوله وكانت الصدقة قبل الهجرة واجبة ليربو في أموال الناس على أحد الاحتمالات في تفسيره . وأما إعطاء [ ص: 104 ] القريب الغني فلعله غير مراد هنا وليس مما يشمله لفظ ( حقه ) وإنما يدخل في حسن المعاملة المرغب فيها .
وحق المسكين : سد خلته . وحق ابن السبيل : الضيافة كما في الحديث جائزته يوم وليلة والمقصود إبطال عادة أهل الجاهلية إذ كانوا يؤثرون البعيد على القريب في الإهداء والإيصاء حبا للمدحة ، ويؤثرون بعطاياهم السادة وأهل السمعة تقربا إليهم ، فأمر المسلمون أن يتجنبوا ذلك قال تعالى كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف كما تقدم في سورة البقرة .
ولذلك عقب بقوله هنا ذلك خير للذين يريدون وجه الله أي الذين يتوخون بعطاياهم إرضاء الله وتحصيل ثوابه وهم المؤمنون .
والإشارة بقوله ذلك خير إلى الإيتاء المأخوذ من قوله فآت ذا القربى حقه الآية .
وذكر الوجه هنا تمثيل كأن المعطي أعطى المال بمرأى من الله لأن الوجه هو محل النظر . وفيه أيضا مشاكلة تقديرية لأن هذا الأمر أريد به مقابلة في القوم فجعل هنا الإعطاء لوجه الله ، والمراد : أنه لامتثال أمره وتحصيل رضاه . ما كان يفعله أهل الجاهلية من الإعطاء لوجه المعطى من أهل الوجاهة
واسم الإشارة في قوله ( ذلك خير ) للتنويه بالمأمور به ، و " خير " يجوز أن يكون تفضيلا والمفضل عليه مفهوم من السياق أن ذلك خير من صنيع أهل الجاهلية الذين يعطون الأغنياء البعداء للرياء والسمعة ، أو المراد ذلك خير من بذل المال في المراباة التي تذكر بعد في قوله وما آتيتم من ربا الآية .
ويجوز أن يكون الخير ما قابل الشر ، أي ذلك فيه خير للمؤمنين ، وهو ثواب الله .
وفي قوله " وأولئك هم المفلحون " صيغة قصر من أجل ضمير الفصل ، وهو قصر إضافي ، أي أولئك المتفردون بالفلاح ، وهو نجاح عملهم في إيتاء من ذكر [ ص: 105 ] لوجه الله تعالى لا للرياء والفخر . فمن آتى للرياء والفخر فلا فلاح له من إيتائه .