لما جرى الترغيب والأمر ببذل المال لذوي الحاجة وصلة الرحم وما في ذلك من الفلاح أعقب بالتزهيد في ضرب آخر من إعطاء المال لا يرضى الله تعالى به وكان الربا فاشيا في زمن الجاهلية وصدر الإسلام وخاصة في ثقيف وقريش . فلما أرشد الله المسلمين إلى مواساة أغنيائهم فقراءهم أتبع ذلك بتهيئة نفوسهم للكف عن للمقترضين منهم ، فإن المعاملة بالربا تنافي المواساة لأن شأن المقترض أنه ذو خلة ، وشأن المقرض أنه ذو جدة فمعاملته المقترض منه بالربا افتراص لحاجته واستغلال لاضطراره ، وذلك لا يليق بالمؤمنين . المعاملة بالربا
و " ما " شرطية تفيد العموم ، فالجملة معترضة بعد جملة فآت ذا القربى حقه إلخ . والواو اعتراضية . ومضمون هذه الجملة بمنزلة الاستدراك للتنبيه على إيتاء مال هو ذميم . وجيء بالجملة شرطية لأنها أنسب بمعنى الاستدراك على الكلام السابق ، فالخطاب للمسلمين الذين يريدون وجه الله الذين كانوا يقرضون بالربا قبل تحريمه .
ومعنى آتيتم : آتى بعضكم بعضا لأن الإيتاء يقتضي معطيا وآخذا .
وقوله ( لتربوا في أموال الناس ) خطاب للفريق الآخذ .
و ( لتربوا ) لتزيدوا ، أي لأنفسكم أموالا على أموالكم . وقوله في أموال الناس ( في ) للظرفية المجازية بمعنى ( من ) الابتدائية ، أي لتنالوا زيادة وأرباحا تحصل لكم من أموال الناس ، فحرف ( في ) هنا كالذي في قول سبرة الفقعسي :
ونشرب في أثمانها ونقامر
[ ص: 106 ] أي نشرب ونقامر من أثمان إبلنا . وتقدم بيانه عند قوله تعالى وارزقوهم فيها واكسوهم في سورة النساء .و ( من ) في قوله " من ربا " وقوله ( من زكاة ) بيانية مبينة لإبهام ( ما ) الشرطية في الموضعين . وتقدم الربا في سورة البقرة .
وقوله فلا يربو عند الله جواب الشرط . ومعنى فلا يربو عند الله أنه عمل ناقص عند الله غير ذاك عنده ، والنقص يكنى به عن المذمة والتحقير .
وهذا التفسير هو المناسب لمحمل لفظ الربا على حقيقته المشهورة ، ولموافقة معنى قوله تعالى يمحق الله الربا ويربي الصدقات ولمناسبة ذكر الإضعاف في قوله هنا فأولئك هم المضعفون وقوله لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في سورة آل عمران . وهذا المعنى مروي عن السدي والحسن ، وقد استقام بتوجيهه المعنى من جهة العربية في معنى ( في ) من قوله في أموال الناس .
ويجوز أن يكون لفظ ( ربا ) في الآية أطلق على الزيادة في مال لغيره ، أي إعطاء المال لذوي الأموال قصد الزيادة في أموالهم تقربا إليهم ، فيشمل هبة الثواب والهبة للزلفى والملق . ويكون الغرض من الآية التنبيه على أن ما كانوا يفعلونه من ذلك لا يغني عنهم من موافقة مرضاة الله تعالى شيئا وإنما نفعه لأنفسهم . ودرج على هذا المعنى جم غفير من المفسرين فيصير المعنى : وما أعطيتم من زيادة لتزيدوا في أموال الناس ، وتصير كلمة ( لتربوا ) توكيدا لفظيا ليعلق به قوله في أموال الناس .
وقوله وما آتيتم من زكاة إلخ رجوع إلى قوله فآت ذا القربى حقه الآية لأن ذلك الحق هو المسمى بالزكاة .
وجملة فأولئك هم المضعفون جواب وما آتيتم من زكاة أي فمؤتوه المضعفون ، أي أولئك الذين حصل لهم الإضعاف وهو إضعاف الثواب . وضمير الفصل جنس المضعفين على هؤلاء ، وهو قصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بإضعاف من عداهم لأن إضعاف من عداهم إضعاف دنيوي زائل .
واسم الإشارة في قوله فأولئك هم المضعفون للتنويه بهؤلاء والدلالة على [ ص: 107 ] أنهم أحرياء بالفلاح . واسم الإشارة إظهار في مقام الإضمار اقتضاه مقام اجتلاب اسم الإشارة .
وقرأ الجمهور ( آتيتم ) بهمزتين ، أي أعطيتم . وقرأه ابن كثير ( أتيتم ) بهمزة واحدة ، أي قصدتم ، أي فعلتم .
وقرأ الجمهور ( ليربو ) بتحتية مفتوحة وفتحة إعراب على واو ( ليربو ) . وكتب في المصاحف بألف بعد الواو وليس واو جماعة بالاتفاق ، ورسم المصحف سنة ، وقرأ نافع ( لتربوا ) بتاء الخطاب مضمومة وواو ساكنة هي واو الجماعة .