افتتاح السورة بخطاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - وندائه بوصفه مؤذن بأن الأهم من سوق هذه السورة يتعلق بأحوال النبيء - صلى الله عليه وسلم - .
وقد نودي فيها خمس مرات في افتتاح أغراض مختلفة من التشريع بعضها خاص به وبعضها يتعلق بغيره وله ملابسة به .
فالنداء الأول لافتتاح غرض تحديد واجبات رسالته نحو ربه .
والنداء الثاني لافتتاح غرض التنويه بمقام أزواجه واقترابه من مقامه .
والنداء الثالث لافتتاح بيان تحديد تقلبات شئون رسالته في معاملة الأمة .
والنداء الرابع في طالعة غرض أحكام تزوجه وسيرته مع نسائه .
والنداء الخامس في غرض تبليغه آداب النساء من أهل بيته ومن المؤمنات .
فهذا النداء الأول افتتح به الغرض الأصلي لبقية الأغراض وهو تحديد واجبات رسالته في تأدية مراد ربه تعالى على أكمل وجه دون أن يفسد عليه أعداء الدين أعماله ، وهو نظير النداء الذي في قوله يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك الآية ، وقوله : يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر . الآيات .
بفضل هذا الوصف ليربأ بمقامه عن أن يخاطب بمثل ما يخاطب به غيره ولذلك لم يناد في القرآن بغير ( ونداء النبيء عليه الصلاة والسلام بوصف النبوءة دون اسمه العلم تشريف له يا أيها النبي ) أو ( يا أيها الرسول ) بخلاف الإخبار عنه فقد يجيء بهذا الوصف كقوله : ( يوم لا يخزي الله النبيء ) ( وقال الرسول يا رب ) ( قل الأنفال لله والرسول ) ( النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، ويجيء باسمه العلم كقوله ما كان محمد أبا أحد من رجالكم .
وقد يتعين إجراء اسمه العلم ليوصف بعده بالرسالة كقوله تعالى : محمد رسول الله وقوله وما محمد إلا رسول . وتلك مقامات يقصد فيها تعليم الناس بأن صاحب ذلك الاسم هو رسول الله ، أو تلقين لهم بأن يسموه بذلك [ ص: 250 ] ويدعوه به ، فإن علم أسمائه من الإيمان لئلا يلتبس بغيره ، ولذلك محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب تعليما للأمة . وقد أنهى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لي خمسة أسماء : أنا أبو بكر بن العربي - إلى سبعة وستين وأنهاها أسماء النبيء - صلى الله عليه وسلم السيوطي إلى ثلاثمائة . وذكر ابن العربي أن بعض الصوفية قال : أسماء النبيء ألفا اسم كما سيأتي عند قوله تعالى : ( يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ) .
توطئة للنهي عن اتباع الكافرين والمنافقين ليحصل من الجملتين قصر تقواه على التعلق بالله دون غيره ، فإن معنى لا تطع مرادف معنى : لا تتق الكافرين والمنافقين ، فإن الطاعة تقوى ; فصار مجموع الجملتين مفيدا معنى : يا أيها النبيء لا تتق إلا الله ، فعدل عن صيغة القصر وهي أشهر في الكلام البليغ وأوجز - إلى ذكر جملتي أمر ونهي لقصد النص على أنه قصر إضافي أريد به أن لا يطيع الكافرين والمنافقين لأنه لو اقتصر على أن يقال : لا تتق إلا الله لما أصاخت إليه الأسماع إصاخة خاصة لأن تقوى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ربه أمر معلوم ، فسلك مسلك الإطناب لهذا ، كقول والأمر للنبيء بتقوى الله السموأل :
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل
فجاء بجملتي : إثبات السيلان بقيد ، ونفيه في غير ذلك القيد ؛ للنص على أنهم لا يكرهون سيلان دمائهم على السيوف ولكنهم لا تسيل دماؤهم على غير السيوف .فإن أصل صيغة القصر أنها مختصرة من جملتي إثبات ونفي ، ولكون هذه الجملة كتكملة للتي قبلها عطفت عليها لاتحاد الغرض منهما . وقد تعين بهذا أن الأمر في قوله اتق الله والنهي في قوله ولا تطع الكافرين والمنافقين - مستعملان في طلب الاستمرار على ما هو ملازم له من تقوى الله ، فأشعر ذلك أن تشريعا عظيما سيلقى إليه لا يخلو من حرج عليه فيه وعلى بعض أمته ، وأنه سيلقى مطاعن الكافرين والمنافقين .
وفائدة هذا الأمر والنهي التشهير لهم بأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - لا يقبل أقوالهم لييأسوا [ ص: 251 ] من ذلك لأنهم كانوا يدبرون مع المشركين المكايد ويظهرون أنهم ينصحون النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويلحون عليه بالطلبات نصحا تظاهرا بالإسلام .
والمراد بالكافرين المجاهرون بالكفر لأنه قوبل بالمنافقين ، فيجوز أن يكونوا المشركين كما هو غالب إطلاق هذا الوصف في القرآن والأنسب بما سيعقبه من قوله ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه إلى آخر أحكام التبني ، والموافق لما روي في سبب نزولها على ضعف فيه سنبينه ; ويجوز أن يكونوا اليهود كما يقتضيه ما يروى في سبب النزول ، ولو حمل على ما يعم نوعي الكافرين المجاهرين لم يكن بعيدا .
: العمل على ما يأمر به الغير أو يشير به لأجل إجابة مرغوبة ، وماهيتها متفاوتة مقول عليها بالتشكيك ، ووقوع اسمها في سياق النهي يقتضي النهي عن كل ما يتحقق فيه أدنى ماهيتها ، مثل أن يعدل عن تزوج مطلقة متبناه لقول المنافقين : إن والطاعة محمدا ينهى عن تزوج نساء الأبناء وتزوج زوج ابنه
، وهو المعنى الذي جاء فيه قوله تعالى : زيد بن حارثة وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه وقوله ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم عقب قضية امرأة زيد . ومثل نقض ما كان للمشركين من جعل الظهار موجبا مصير المظاهرة أما للمظاهر حراما عليه قربانها أبدا ، ولذلك أردفت الجملة بجملة إن الله كان عليما حكيما تعليلا للنهي .
والمعنى : أن فلا يأمر إلا بما فيه الصلاح . ودخول إن على الجملة قائم مقام فاء التعليل ومغن غناءها على ما بين في غير موضع ، وشاهده المشهور قول الله حقيق بالطاعة له دون الكافرين والمنافقين لأنه عليم حكيم بشار :
بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير