استئناف ابتدائي ، للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية ، والإسلام . كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم ، فإنها تجمع الثلاثة ; لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين ، وقد أمر الله به في قوله : وعاشروهن بالمعروف فامتثاله من التقوى ، ولأن دوامه من دوام الإصلاح ، ويحدث بفقده الشقاق ، وهو مناف للتقوى . وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين ، ولا تنحل يمينه إلا بعد مضي تلك المدة ، ولا كلام للمرأة في ذلك . وعن : كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يطلقها ، لئلا يتزوجها غيره ، فكان يحلف ألا يقربها مضارة للمرأة أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم . قال : ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك ، فأزال الله ذلك ، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان ، التي مهد لها بقوله : سعيد بن المسيب ولا تجعلوا الله عرضة .
: الحلف ، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقا : يقال آلى يولي إيلاء ، وتألى يتألى تأليا ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والاسم الألوة والألية ، كلاهما بالتشديد ، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة . والإيلاء
وقال الراغب : الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو [ ص: 385 ] التقصير قال تعالى لا يألونكم خبالا ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة وصار في الشرع الحلف المخصوص ( فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك ; لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك ; وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو ، وتشهد به موارد الاستعمال ، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيرا ، ويذكرونه كثيرا ، قال المتلمس :
آليت حب العراق الدهر أطعمه
وقال تعالى ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا للذين يؤلون من نسائهم فعداه بمن ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين .وأيا ما كان فالإيلاء ، بعد نزول هذه الآية ، صار حقيقة شرعية في هذا الحلف على الوصف المخصوص .
ومجيء اللام في للذين يؤلون لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم ، فاللام للأجل مثل ( هذا لك ) ويعلم منه معنى التخيير فيه ، أي ليس التربص بواجب ، فللمولي أن يفيء في أقل من الأشهر الأربعة . وعدي فعل الإيلاء بمن ، مع أن حقه أن يعدى بعلى ; لأنه ضمن هنا معنى البعد ، فعدي بالحرف المناسب لفعل البعد ، كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم ، فمن للابتداء المجازي .
والنساء : الزوجات كما تقدم في قوله فاعتزلوا النساء في المحيض وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان ، مثل حرمت عليكم أمهاتكم وقد تقدم في قوله تعالى إنما حرم عليكم الميتة .
والتربص : انتظار حصول شيء لغير المنتظر ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى في كقوله تعالى بل مكر الليل .
وتقديم للذين يؤلون على المبتدأ المسند إليه ، وهو تربص ، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج ، وتشويق لذكر المسند إليه . وفاءوا رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء ، وحذف متعلق فاءوا بالظهور المقصود . والفيئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود .
[ ص: 386 ] وقوله فإن الله غفور رحيم دليل الجواب ، أي فحنثهم في يمين الإيلاء ، مغفور لهم ; لأن الله غفور رحيم . وفيه إيذان بأن حرام ، لأن شأن إيلائهم ، الوارد فيه القرآن ، قصد الإضرار بالمرأة . وقد يكون الإيلاء مباحا إذا لم يقصد به الإضرار ، ولم تطل مدته : كالذي يكون لقصد التأديب ، أو لقصد آخر معتبر شرعا ، غير قصد الإضرار المذموم شرعا . وقد الإيلاء آلى النبيء صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرا ، قيل : لمرض كان برجله ، وقيل : لأجل تأديبهن ; لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهم إلى الإفراط في الإدلال ، وحمل البقية على الاقتداء بالأخريات ، أو على استحسان ذلك . والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور .
وأما جواز الإيلاء للمصلحة : كالخوف على الولد من الغيل ، وكالحمية من بعض الأمراض في الرجل والمرأة ، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة ، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم ، واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمر ، إن لم يقيدوها بالحلف .
وعزم الطلاق : التصميم عليه ، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مول من تلقاء نفسه ، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة ، فقوله : وإن عزموا الطلاق دليل على شرط محذوف ، دل عليه قوله : فإن فاءوا فالتقدير : وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق ، فهم بخير النظرين : بين أن يفيئوا ، أو يطلقوا ، فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم .
وقوله فإن الله سميع عليم دليل الجواب ، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم ، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلا محدودا ، لا يتجاوزونه ، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم ، وإما أن يطلقوا ، ولا مندوحة لهم غير هذين .
وقد جعل الله للمولي أجلا وغاية : أما الأجل فاتفق عليه علماء الإسلام ، واختلفوا في الحالف على أقل من أربعة أشهر ، فالأئمة الأربعة على أنه ليس بإيلاء ، وبعض العلماء : كإسحاق بن راهويه وحماد يقول : هو إيلاء ، ولا ثمرة لهذا الخلاف ، فيما يظهر ، إلا ما يترتب على الحلف بقصد الضر من تأديب القاضي إياه إذا رفعت زوجه أمرها إلى القاضي ومن أمره إياه بالفيئة .
[ ص: 387 ] وأما الغاية ، فاختلفوا أيضا في الحاصل بعد مضي الأجل ، فقال مالك : إن رفعته امرأته بعد ذلك ، يوقف لدى الحاكم ، فإما أن يفيء ، أو يطلق بنفسه ، أو يطلق الحاكم عليه ، وروي ذلك عن اثني عشر من أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم . وقال والشافعي أبو حنيفة : إن مضت المدة ولم يفئ فقد بانت منه ، واتفق الجميع على أن غير القادر يكفي أن يفيء بالعزم ، والنية ، وبالتصريح لدى الحاكم ، كالمريض والمسجون والمسافر .
واحتج المالكية بأن الله تعالى قال فإن الله سميع عليم فدل على أن هنالك مسموعا ; لأن وصف الله بالسميع معناه العليم بالمسموعات ، على قول المحققين من المتكلمين ، لا سيما وقد قرن بعليم ، فلم يبق مجال لاحتمال قول القائلين من المتكلمين ، بأن ( السميع ) مرادف ( للعليم ) وليس المسموع إلا لفظ المولي ، أو لفظ الحاكم ، دون البينونة الاعتبارية .
وقوله عليم يرجع للنية والقصد . وقال الحنفية سميع لإيلائه ، الذي صار طلاقا بمضي أجله ، وكأنهم يريدون : أن صيغة الإيلاء ، جعلها الشرع سبب طلاق ، بشرط مضي الأمد عليم بنية العازم على ترك الفيئة . وقول المالكية أصح ; لأن قوله فإن الله سميع عليم جعل مفرعا عن عزم الطلاق ; لا عن أصل الإيلاء ; ولأن تحديد الآجال وتنهيتها موكول للحكام .
وقد خفي على الناس وجه التأجيل بأربعة أشهر ، وهو أجل حدده الله تعالى ، ولم نطلع على حكمته ، وتلك المدة ثلث العام ، فلعلها ترجع إلى أن مثلها يعتبر زمنا طويلا ، فإن الثلث اعتبر معظم الشيء المقسوم ، مثل ثلث المال في الوصية ، وأشار به النبيء صلى الله عليه وسلم على في صوم الدهر . وحاول بعض العلماء توجيهه بما وقع في قصة مأثورة عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعزا عمر بن الخطاب ابن كثير في تفسيره روايتها لمالك في الموطأ عن . ولا يوجد هذا في الروايات الموجودة لدينا : وهي رواية عبد الله بن دينار ، ولا رواية يحيى بن يحيى الليثي ابن القاسم والقعنبي وسويد بن سعيد ، ولا رواية ومحمد بن الحسن الشيباني التي يرويها يحيى بن يحيى بن بكير التميمي ، فهذه الروايات التي لدينا فلعلها مذكورة في رواية أخرى لم نقف عليها . وقد ذكر هذه القصة المهدي بن تومرت في شرحه على الموطأ المسمى بالمنتقى ، ولم يعزها إلى شيء من روايات الموطأ : أن أبو الوليد الباجي عمر خرج ليلة يطوف بالمدينة يتعرف أحوال الناس فمر بدار سمع امرأة بها تنشد :
[ ص: 388 ]
ألا طال هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فلولا حذار الله لا شيء غـيره لزعزع من هذا السرير جوانبه