وعطف الصفات بالفاء يقتضي أن تلك الصفات ثابتة لموصوف واحد باعتبار جهة ترجع إليها وحدته ، وهذا الموصوف هو هذه الطوائف من الملائكة فإن الشأن في عطف الأوصاف أن تكون جارية على موصوف واحد لأن الأصل في العطف بالفاء اتصال المتعاطفات بها لما في الفاء من معنى التعقيب ؛ ولذلك يعطفون بها أسماء الأماكن المتصل بعضها ببعض كقول امرئ القيس :
بسقط اللوى بين الدخول فحومل فتوضح فالمقراة . . .
الـبـيتوكقول لبيد :
بمشارق الجبليين أو بمحجر فتضمنتها فردة فرخامها
فصدائق أن أيمنت فمظنة
يا لهف زيابة للحارث ال صابح فالغانم فالآيب
[ ص: 84 ] فعن جماعة من السلف : أن هذه الصفات للملائكة ، وعن قتادة أن التاليات ذكرا الجماعة الذين يتلون كتاب الله من المسلمين ، وقسم الله بمخلوقاته يومئ إلى التنويه بشأن المقسم به من حيث هو دال على عظيم قدرة الخالق أو كونه مشرفا عند الله تعالى .
وتأنيث هذه الصفات باعتبار إجرائها على معنى الطائفة والجماعة ليدل على أن المراد أصناف من الملائكة لا آحاد منهم .
و " الصافات " جمع : صافة ، وهي الطائفة المصطف بعضها مع بعض . يقال : صف الأمير الجيش - متعديا - إذا جعله صفا واحدا أو صفوفا ، فاصطفوا . ويقال : فصفوا ، أي صاروا مصطفين ، فهو قاصر . وهذا من المطاوع الذي جاء على وزن فعله مثل قول العجاج :
قد جبر الدين الإله فجبر
وتقدم قوله فاذكروا اسم الله عليها صواف في سورة الحج ، وقوله والطير صافات في النور .ووصف الملائكة بهذا الوصف يجوز أن يكون على حقيقته ، فتكون الملائكة في العالم العلوي مصطفة صفوفا ، وهي صفوف متقدم بعضها على بعض باعتبار مراتب الملائكة في الفضل والقرب . ويجوز أن يكون كناية عن الاستعداد لامتثال ما يلقى إليهم من أمر الله تعالى قال تعالى ، حكاية عنهم في هذه السورة وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون .
والزجر : الحث في نهي أو أمر بحيث لا يترك للمأمور تباطؤ في الإتيان بالمطلوب ، والمراد به : تسخير الملائكة المخلوقات التي أمرهم الله بتسخيرها خلقا أو فعلا ، كتكوين العناصر ، وتصريف الرياح ، وإزجاء السحاب إلى الآفاق .
و " التاليات ذكرا " المترددون لكلام الله تعالى الذي يتلقونه من جانب القدس لتبليغ بعضهم بعضا أو لتبليغه إلى الرسل كما أشار إليه قوله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير ، وبينه قول النبيء [ ص: 85 ] - صلى الله عليه وسلم - . إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الذي قال الحق
والمراد بـ ( التاليات ) ما يتلونه من تسبيح وتقديس لله تعالى لأن ذلك التسبيح لما كان ملقنا من لدن الله تعالى كان كلامهم بها تلاوة . والتلاوة : القراءة ، وتقدمت في قوله تعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان في البقرة ، وقوله وإذا تليت عليهم آياته في الأنفال .
والذكر ما يتذكر به من القرآن ونحوه ، وتقدم في قوله وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر في سورة الحجر .
وما تفيده الفاء من ترتيب معطوفها يجوز أن يكون ترتيبها في الفصل بأن يراد أن الزجر وتلاوة الذكر أفضل من الصف لأن الاصطفاف مقدمة لها ووسيلة ، والوسيلة دون المتوسل إليه ، وأن تلاوة الذكر أفضل من الزجر باعتبار ما فيها من إصلاح المخلوقات المزجورة بتبليغ الشرائع إن كانت التلاوة تلاوة الوحي الموحى به للرسل ، أو بما تشتمل عليه التلاوة من تمجيد الله تعالى فإن الأعمال تتفاضل تارة بتفاضل متعلقاتها .
وقد جعل الله الملائكة قسما وسطا من أقسام الموجودات الثلاثة باعتبار التأثير والتأثر . فأعظم الأقسام المؤثر الذي لا يتأثر وهو واجب الوجود سبحانه ، وأدناها المتأثر الذي لا يؤثر وهو سائر الأجسام ، والمتوسط الذي يؤثر ويتأثر وهذا هو قسم المجردات من الملائكة والأرواح فهي القابلة للأثر عن عالم الكبرياء الإلهية وهي تباشر التأثير في عالم الأجسام . وجهة قابليتها الأثر من عالم الكبرياء مغايرة لجهة تأثيرها في عالم الأجسام وتصرفها فيها ، فقوله فالزاجرات زجرا إشارة إلى تأثيرها ، وقوله فالتاليات ذكرا إشارة إلى تأثرها بما يلقى إليها من أمر الله فتتلوه وتتعبد بالعمل به .
وجملة إن إلهكم لواحد جواب القسم ومناط التأكيد صفة واحد ؛ لأن المخاطبين كانوا قد علموا أن لهم إلها ولكنهم جعلوه عدة آلهة فأبطل اعتقادهم [ ص: 86 ] بإثبات أنه واحد غير متعدد ، وهذا إنما يقتضي نفي الإلهية عن المتعددين ، وأما اقتضاؤه تعيين الإلهية لله تعالى فذلك حاصل لأنهم لا ينكرون أن الله تعالى هو الرب العظيم ولكنهم جعلوا له شركاء فحصل التعدد في مفهوم الإله فإذا بطل التعدد تعين انحصار الإلهية في رب واحد هو الله تعالى .