لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله - تعالى - ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) الآية ، إذ لم يكن حكم ذلك مقررا يومئذ ، وتقدم في سورة الأنفال .
والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم .
والمقصود : تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ، ليكون الدين كله لله ، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين . وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التعليل من قوله حتى تضع الحرب أوزارها .
و ( إذا ) ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط ، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله فضرب الرقاب .
واللقاء في قوله فإذا لقيتم الذين كفروا : المقابلة : وهو إطلاق شهير للقاء . يقال : يوم اللقاء ، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب ، ويقال : إن لقيت فلانا لقيت منه أسدا ، وقال النابغة :
تجنب بني حن فإن لقاءهـم كريه وإن لم تلق إلا بصائر
فليس المعنى : إذا لقيتم الكافرين في الطريق ، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل لقيتم .
والمعنى : فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضدتم شوكتهم ، فأسروا منهم أسرى .
" وضرب الرقاب " : كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم [ ص: 79 ] بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام ، وأوثرت على كلمة القتل ؛ لأن في استعمال الكناية بلاغة ؛ ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض .
والضرب هنا بمعنى : القطع بالسيف ، وهو أحد أحوال القتال عندهم ؛ لأنه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجها عدوه وجها لوجه .
والمعنى : فاقتلوهم سواء كان القتل بضرب السيف ، أو طعن الرماح ، أو رشق النبال ، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان .
والذين كفروا : هم المشركون لأن ، نحو : الكافرين ، والكفار ، والذين كفروا ، هو الشرك . اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر
و ( حتى ) ابتدائية . ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع .
والإثخان : الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصلب الذي لا يخف للحركة ، ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة ، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها .
وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل ، وكلا المعنيين في هذه الآية ، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم . وعليه ، فجواز المن والفداء غير مقيد .
وإذا فسر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذ ، أي أبقوا الأسرى ، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر . وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله حتى يثخن في الأرض .
وانتصب ضرب الرقاب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله ثم أضيف إلى مفعوله ، والتقدير : فاضربوا الرقاب ضربا ، فلما حذف الفعل اختصارا قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية .
[ ص: 80 ] والشد : قوة الربط ، وقوة الإمساك .
والوثاق بفتح الواو : الشيء الذي يوثق به ، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به . وهو هنا كناية عن الأسر ؛ لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير .
والمعنى : فاقتلوهم ، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم .
وتعريف الرقاب و الوثاق يجوز أن يكون للعهد الذهني ، ويجوز أن يكون عوضا عن المضاف إليه ، أي فضرب رقابهم وشدوا وثاقهم .
والمن : الإنعام . والمراد به : إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق من عليه إذا لم يقتل ، والفداء : بكسر الفاء ممدودا تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدو . وقدم المن على الفداء ترجيحا له ؛ لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بعضه .
وانتصب " منا " و فداء على المفعولية المطلقة بدلا من عامليهما ، والتقدير : إما تمنون وإما تفدون .
وقوله " بعد " أي بعد الإثخان ، وهذا تقييد لإباحة . وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبيء - صلى الله عليه وسلم - بعد غزوة المن والفداء هوازن . وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ ، وهذا رأي جمهور أيمة الفقه وأهل النظر .
فقوله الذين كفروا عام في كل كافر ، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حربهم ويشمل من حارب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار . وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده ، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون ، لأن أوقات القتال مبينة في سورة " براءة " . ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم .
ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) في سورة الأنفال . واختلف العلماء في حكم هذه الآية في والذي ذهب إليه القتل والمن والفداء مالك والشافعي والثوري [ ص: 81 ] وهو أحد قولين عن والأوزاعي أبي حنيفة رواه ومن السلف الطحاوي ، عبد الله بن عمر ، وعطاء ، : أن هذه الآية غير منسوخة ، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء ، وأمير الجيش مخير في ذلك . ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذن في المن أو الفداء فهي ناسخة أو منهية لحكم قوله تعالى ( وسعيد بن جبير ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) إلى قوله لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم في سورة الأنفال .
وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله - تعالى - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة وأوقات المحاربة ، فلذلك لم يقل هؤلاء بحظر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المن والفداء ، ولم يذكر معهما القتل . وقد ثبت في الصحيح ثبوتا مستفيضا بدر النضر بن الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل من أسرى وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم وقتل سعد بن معاذ ، هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة ، وقتل بعد أحد أبا عزة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر .
وأيضا لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق ، وهو الأصل في الأسرى ، وهو يدخل في المن إذا اعتبر المن شاملا لترك القتل ، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع . وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك : أن المن من العتق .
وقال الحسن وعطاء : التخيير بين المن والفداء فقط دون قتل الأسير ، فقتل الأسير يكون محظورا . وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء .
وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في إلا القتل بقوله - تعالى - الأسير المشرك فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدي ورواه وابن جريج ، عن العوفي وهو المشهور عن ابن عباس أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة : لا بأس أن يفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد [ ص: 82 ] المشركين . وروى الجصاص ثقيف . أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في
والغاية المستفادة من ( حتى ) في قوله حتى تضع الحرب أوزارها للتعليل لا للتقييد ، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، أي ليكف المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال .
والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهن العدو فيتركوا حربكم ، فلا مفهوم لهذه الغاية ، فالتعليل متصل بقوله فضرب الرقاب وما بينهما اعتراض . والتقدير : فضرب الرقاب ، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، فيكون واردا مورد التعليم والموعظة ، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المن بعد ذلك أو الفداء .
والأوزار : الأثقال ، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمال أو المسافر أثقاله ، وهذا من مبتكرات القرآن . وأخذ منه عبد ربه السلمي ، أو سليم الحنفي قوله :
فألقت عصاها واستقر بها النوى كما قر عينا بالإياب المسافـر
فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره .