حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ومنهم من يستمع إليك
ضمير ومنهم عائد إلى الذين كفروا الذين جرى ذكرهم غير مرة من أول السورة ، أي ومن الكافرين قوم يستمعون إليك ، وأراد بمن يستمع معهم المنافقين بقرينة قوله قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال وقوله خرجوا من عندك .
وليس المراد مجرد المستمعين مثل ما في قوله ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم وقوله ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة للفرق الواضح بين الأسلوبين ، وهذا صنف آخر من الكافرين الذين أسروا الكفر وتظاهروا بالإيمان ، وقد كان المنافقون بعد الهجرة مقصودين من لفظ الكفار . وهذه السورة نازلة بقرب عهد من الهجرة فلذلك ذكر فيها الفريقان من الكفار .
ومعنى يستمع إليك : يحضرون مجلسك ويسمعون كلامك وما تقرأ عليهم من القرآن . وهذه صفة من يتظاهر بالإسلام فلا يعرضون عن سماع القرآن إعراض المشركين بمكة . روي عن الكلبي ومقاتل : أنها نزلت في عبد الله [ ص: 99 ] بن أبي ابن سلول ورفاعة بن الثابوت ، والحارث بن عمرو ، وزيد بن الصلت ، ومالك بن الدخشم .
والاستماع : أشد السمع وأقواه ، أي يستمعون باهتمام يظهرون أنهم حريصون على وعي ما يقوله الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأنهم يلقون إليه بالهم ، وهذا من استعمال الفعل في معنى إظهاره لا في معنى حصوله . وحق فعل " استمع " أن يعدى إلى المفعول بنفسه كما في قوله يستمعون القرآن فإذا أريد تعلقه بالشخص المسموع منه يقال : استمع إلى فلان ، كما قال هنا ومنهم من يستمع إليك ، وكذا جاء في مواقعه كلها من القرآن .
و ( حتى ) في قوله حتى إذا خرجوا من عندك ابتدائية و ( إذا ) اسم زمان متعلق بـ " قالوا " .
والمعنى : فإذا خرجوا من عندك قالوا . . . إلخ .
والخروج : مغادرة مكان معين محصورا وغير محصور ، فمنه إذ أخرجني من السجن ، ومنه يريد أن يخرجكم من أرضكم .
والخروج من عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - مغادرة مجلسه الذي في المسجد وهو الذي عبر عنه هنا بلفظ " عندك " .
و ( من ) لتعدية فعل " خرجوا " وليست التي تزاد مع الظروف في نحو قوله - تعالى - من عند الله .
والذين أوتوا العلم : هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الملازمون لمجلسه . وسمي منهم عبد الله بن مسعود وأبو الدرداء . وروي عنه أنه قال : أنا منهم وسئلت فيمن سئل . وابن عباس
والمعنى : أنهم يستمعون إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - من القرآن وما يقوله من الإرشاد وحذف مفعول " يستمع " ليشمل ذلك .
[ ص: 100 ] ومعنى آنفا : وقتا قريبا من زمن التكلم ، ولم ترد هذه الكلمة إلا منصوبة على الظرفية . قال : هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه ا هـ يريد أنه مشتق من فعل مزيد ولم يسمع له فعل مجرد ، وظاهر كلامهم أن اشتقاقه من الاسم الجامد وهو الأنف ، أي جارحة الشم وكأنهم عنوا به أنف البعير لأن الأنف أول ما يبدو لراكبه فيأخذ بخطامه ، فلوحظ في اسم الأنف معنى الوصف بالظهور ، وكني بذلك عن القرب ، وقال غيره : هو مشتق من أنف بضم الهمزة وضم النون يوصف به الكأس التي لم يشرب منها من قبل ، وتوصف به الروضة التي لم ترع قبل ، كأنهم لاحظوا فيها لازم وصف عدم الاستعمال وهو أنه جديد ، أي زمن قريب ، فـ " آنفا " زمانا لم يبعد العهد به . قال الزجاج ابن عطية : والمفسرون يقولون : آنفا معناه : الساعة القريبة منا وهذا تفسير المعنى ا هـ . وفي كلامه نظر لأن أهل اللغة فسروه بوقت يقرب منا .
وصيغ على زنة اسم الفاعل وليس فيه معنى اسم الفاعل ، فهذا اسم غريب التصريف ولا يحفظ شيء من شعر العرب وقع فيه هذا اللفظ .
واتفق القراء على قراءته بصيغة فاعل وشذت رواية عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ ( أنفا ) بوزن كتف . وقد أنكر بعض علماء القراءات نسبتها إلى ابن كثير ولكن الشاطبي أثبتها في حرز الأماني وقد ذكرها أبو علي في الحجة .
فإذا صحت هذه الرواية عن البزي عنه كان ( أنفا ) حالا من ضمير من يستمع أجري على الإفراد رعيا للفظ ( من ) . ومعناه : أنه يقول ذلك في حال أنه شديد الأنفة ، أي التكبر إظهارا لترفعه عن وعي ما يقوله النبيء - صلى الله عليه وسلم - وينتهي الكلام عند ماذا . وزعم أبو علي في الحجة : أن البزي توهمه مثل حاذر وحذر . ولا يظن مثل هذا بالبزي لو صحت الرواية عنه عن ابن كثير .
وسياق الكلام يدل على ذم هذا السؤال لقوله عقبه أولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهو سؤال ينبئ عن مذمة سائليه ، فإن كان سؤالهم حقيقة أنبأ عن قلة وعيهم لما يسمعونه من النبيء - صلى الله عليه وسلم - فهم يستعيدونه من الذين علموه فلعل استعادتهم إياه لقصد أن يتدارسوه إذا خلوا مع إخوانهم ليختلقوا مغامر يهيئونها بينهم ، أو أن يجيبوا من يسألهم من إخوانهم عما سمعوه في المجلس الذي كانوا فيه .
[ ص: 101 ] ويجوز أن يكون السؤال على غير حقيقته ناوين به الاستهزاء يظهرون للمؤمنين اهتمامهم باستعادة ما سمعوه ويقولون لإخوانهم : إنما نحن مستهزئون ، أو أن يكون سؤالهم تعريضا بأنهم سمعوا كلاما لا يستبين المراد منه لإدخال الشك في نفوس من يحسون منهم الرغبة في حضور مجالس النبيء - صلى الله عليه وسلم - تعريضا لقلة جدوى حضورها .
ويجوز أن تكون الآية أشارت إلى حادثة خاصة ذكر فيها النبيء - صلى الله عليه وسلم - المنافقين وأحوالهم وعلم الذين كانوا حاضرين منهم أنهم المعنيون بذلك ، فأرادوا أن يسألوا سؤال استطلاع هل شعر أهل العلم بأن أولئك هم المعنيون ، فيكون مفعول يستمعون محذوفا للعلم به عند النبيء - صلى الله عليه وسلم - .