شروع في الغرض الأصلي من هذه السورة ، وهذه الجملة مستأنفة ، وأكد بحرف التأكيد للاهتمام ، وصيغة المضارع في قوله " يبايعونك " لاستحضار حالة المبايعة الجليلة لتكون كأنها حاصلة في زمن نزول هذه الآية مع أنها قد انقضت وذلك كقوله - تعالى - ويصنع الفلك .
والحصر المفاد من ( إنما ) حصر الفعل في مفعوله ، أي لا يبايعون إلا الله وهو قصر ادعائي بادعاء أن غاية البيعة وغرضها هو النصر لدين الله ورسوله فنزل الغرض منزلة الوسيلة فادعى أنهم بايعوا الله لا الرسول .
[ ص: 158 ] وحيث كان الحصر تأكيدا على تأكيد ، كما قال صاحب المفتاح : لم أجعل ( إن ) التي في مفتتح الجملة للتأكيد لحصول التأكيد بغيرها فجعلتها للاهتمام بهذا الخبر ليحصل بذلك غرضان .
وانتقل من هذا الادعاء إلى تخيل أن الله - تعالى - يبايعه المبايعون فأثبتت له اليد التي هي من روادف المبايع بالفتح على وجه التخييلة مثل إثبات الأظفار للمنية .
وقد هيأت صيغة المبايعة لأن تذكر بعدها الأيدي لأن المبايعة يقارنها وضع المبايع يده في يد المبايع بالفتح كما قال كعب بن زهير :
حتى وضعت يميني لا أنازعه في كف ذي يسرات قيله القيل
ومما زاد هذا التخييل حسنا ما فيه من المشاكلة بين يد الله وأيديهم كما قال في المفتاح : والمشاكلة من المحسنات البديعية . والله منزه عن اليد وسمات المحدثات
فجملة يد الله فوق أيديهم مقررة لمضمون جملة إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله المفيدة أن بيعتهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - في الظاهر ، هي بيعة منهم لله في الواقع فقررته جملة يد الله فوق أيديهم وأكدته ولذلك جردت عن حرف العطف .
وجعلت اليد المتخيلة فوق أيديهم : إما لأن إضافتها إلى الله تقتضي تشريفها بالرفعة على أيدي الناس كما وصفت في المعطي بالعليا في قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - ، وإما لأن المبايعة كانت بأن يمد المبايع كفه أمام المبايع بالفتح ويضع هذا المبايع يده على يد المبايع ، فالوصف بالفوقية من تمام التخييلية . ويشهد لهذا ما في صحيح مسلم اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا هي المعطية واليد السفلى هي الآخذة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بايعه الناس كان عمر آخذا بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أي كان عمر يضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيدي الناس كيلا يتعب بتحريكها لكثرة المبايعين فدل على أن يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت توضع على يد المبايعين .
وأيا ما كان فذكر الفوقية هنا ترشيح للاستعارة وإغراق في التخيل .
والمبايعة أصلها مشتقة من البيع فهي مفاعلة لأن كلا المتعاقدين بائع ، ونقلت [ ص: 159 ] إلى معنى العهد على الطاعة والنصرة قال تعالى يا أيها النبيء إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا الآية ، وهي هنا بمعنى العهد على النصرة والطاعة .
وهي البيعة التي بايعها المسلمون النبيء - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية تحت شجرة من السمر وكانوا ألفا وأربعمائة على أكثر الروايات . وقال : أو أكثر ، وعنه : أنهم خمس عشرة مائة . وعن جابر بن عبد الله كانوا ثلاث عشرة مائة . عبد الله بن أبي أوفى وأول من بايع النبيء - صلى الله عليه وسلم - تحت الشجرة أبو سنان الأسدي .
وتسمى لقول الله - تعالى - بيعة الرضوان لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة .
وكان سبب هذه البيعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرسل من عثمان بن عفان الحديبية إلى أهل مكة ليفاوضهم في شأن التخلية بين المسلمين وبين الاعتمار بالبيت فأرجف بأن عثمان قتل فعزم النبيء - صلى الله عليه وسلم - على قتالهم لذلك ودعا من معه إلى البيعة على أن لا يرجعوا حتى يناجزوا القوم ، فكان يقول : بايعوه على أن لا يفروا ، وقال جابر بن عبد الله سلمة بن الأكوع وعبد الله بن زيد : بايعناه على الموت ، ولا خلاف بين هذين لأن عدم الفرار يقتضي الثبات إلى الموت .
الحديبية عن البيعة إلا عثمان إذ كان غائبا ولم يتخلف أحد ممن خرج مع النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى بمكة للتفاوض في شأن العمرة ، ووضع النبيء - صلى الله عليه وسلم - يده اليمنى على يده اليسرى وقال : هذه يد عثمان ثم جاء عثمان ، فبايع وإلا الجد بن قيس السلمي اختفى وراء جمله حتى بايع الناس ولم يكن منافقا ولكنه كان ضعيف العزم . وقال لهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - . أنتم خير أهل الأرض
وفرع قوله فمن نكث فإنما ينكث على نفسه على جملة إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ، فإنه لما كشف كنه هذه البيعة بأنها مبايعة لله ضرورة أنها مبايعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - باعتبار رسالته عن الله صار أمر هذه البيعة عظيما خطيرا في الوفاء بما وقع عليه التبايع وفي نكث ذلك .
والنكث : كالنقض للحبل . قال - تعالى - ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا [ ص: 160 ] وغلب النكث في معنى النقض المعنوي كإبطال العهد .
والكلام تحذير من نكث هذه البيعة وتفظيع له لأن الشرط يتعلق بالمستقبل . ومضارع ينكث بضم الكاف في المشهور واتفق عليه القراء . ومعنى فإنما ينكث على نفسه . أن نكثه عائد عليه بالضر كما دل عليه حرف ( على ) .
و ( إنما ) للقصر وهو لقصر النكث على مدلول على نفسه ليراد لا يضر بنكثه إلا نفسه ولا يضر الله شيئا فإن نكث العهد لا يخلو من قصد إضرار بالمنكوث ، فجيء بقصر القلب لقلب قصد الناكث على نفسه دون على النبيء - صلى الله عليه وسلم - .
ويقال : أوفى بالعهد وهي لغة تهامة ، ويقال : وفى بدون همز وهي لغة عامة العرب ، ولم تجئ في القرآن إلا الأولى .
قالوا : ولم ينكث أحد ممن بايع .
والظاهر عندي : أن أهل مكة وأن هذه الآية نزلت فيما بين ساعة البيعة وبين انعقاد الهدنة ، وحصل أجر الإيفاء بالنية عدمه لو نزل ما عاهدوا الله عليه . سبب المبايعة قد انعدم بالصلح الواقع بين النبيء - صلى الله عليه وسلم - وبين
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر ورويس عن يعقوب ( فسنؤتيه ) بنون العظمة على الالتفات من الغيبة إلى المتكلم . وقرأه الباقون بياء الغيبة عائدا ضميره على اسم الجلالة .