أتبع النعي على المشركين سوء فعلهم من الكفر والصد عن المسجد الحرام وتعطيل شعائر الله وعده المسلمين بفتح قريب ومغانم كثيرة ، بما يدفع غرور المشركين بقوتهم ، ويسكن تطلع المسلمين لتعجيل الفتح ، فبين أن الله كف أيدي المسلمين عن المشركين مع ما قرره آنفا من قوله ولو قاتلوكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا [ ص: 189 ] لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا أنه إنما لم يأمر المسلمين بقتال عدوهم لما صدوهم عن البيت لأنه أراد رحمة جمع من المؤمنين والمؤمنات كانوا في خلال أهل الشرك لا يعلمونهم ، وعصم المسلمين من الوقوع في مصائب من جراء إتلاف إخوانهم ، فالجملة معطوفة على جملة ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار أو على جملة وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم إلخ . وأيا ما كان فهي كلام معترض بين جملة هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام إلخ ، وبين جملة إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية .
ونظم هذه الآية بديع في أسلوبي الإطناب والإيجاز ، والتفنن في الانتقال ورشاقة كلماته .
و ( لولا ) دالة على امتناع لوجود ، أي امتنع تعذيبنا الكافرين لأجل وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات بينهم . وما بعد ( لولا ) مبتدأ وخبره محذوف على الطريقة المستعملة في حذفه مع ( لولا ) إذا كان تعليق امتناع جوابها على وجود شرطها وجودا مطلقا غير مقيد بحال ، فالتقدير : ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات موجودون ، كما يدل عليه قوله بعده : ( لو تزيلوا ) ، أي لو لم يكونوا موجودين بينهم ، أي أن وجود هؤلاء هو الذي لأجله امتنع حصول مضمون جواب ( لولا ) .
وإجراء الوصف على رجال ونساء بالإيمان مشير إلى أن وجودهم المانع من حصول مضمون الجواب هو الوجود الموصوف بإيمان أصحابه ، ولكن الامتناع ليس معلقا على وجود الإيمان بل على وجود ذوات المؤمنين والمؤمنات بينهم .
وكذلك قوله : ( لم تعلموهم ) ليس هو خبرا بل وصفا ثانيا إذ ليس محط الفائدة .
ووجه عطف : نساء مؤمنات مع أن وجود رجال مؤمنون كاف في ربط امتناع الجواب بالشرط ومع التمكن من أن يقول : ولولا المؤمنون ، فإن جمع المذكر في اصطلاح القرآن يتناول النساء غالبا ، أن تخصيص النساء بالذكر أنسب بمعنى انتفاء المعرة بقتلهن وبمعنى تعلق رحمة الله بهن .
[ ص: 190 ] ومعنى ( لم تعلموهم ) لم تعلموا إيمانهم إذ كانوا قد آمنوا بعد خروج النبيء صلى الله عليه وسلم مهاجرا .
فعن جنبذ ( بجيم مضمومة ونون ساكنة وموحدة مضمومة وذال معجمة ) بن سبع ( بسين مهملة مفتوحة وموحدة مضمومة ، ويقال : سباع بكسر السين يقال : إنه أنصاري ، ويقال : قاري صحابي قال : هم سبعة رجال سمي منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، ، وأبو جندل بن سهيل وأبو بصير القرشي ولم أقف على اسم السابع ، وعدت ، وأحسب أن ثانيتهما أم الفضل زوج العباس بن عبد المطلب التي لحقت بالنبيء صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط المدينة . وعن حجر بن خلف : ثلاثة رجال وتسع نسوة ، ولفظ الآية يقتضي أن النساء أكثر من اثنتين . والظاهر أن المراد بقوله : ( لم تعلموهم ) ، ما يشمل معنى نفي معرفة أشخاصهم ، ومعنى نفي العلم بما في قلوبهم ، فيفيد الأول أنهم لا يعلمهم كثير منكم ممن كان في الحديبية من أهل المدينة ومن معهم من الأعراب فهم لا يعرفون أشخاصهم ، فلا يعرفون من كان منهم مؤمنا ، وإن كان يعرفهم المهاجرون ، ويفيد الثاني أنهم لا يعلمون ما في قلوبهم من الإيمان أو ما أحدثوه بعد مفارقتهم من الإيمان ، أي لا يعلم ذلك كله الجيش من المهاجرين والأنصار .
و أن تطئوهم بدل اشتمال من رجال ومعطوفه ، أو من الضمير المنصوب في لم تعلموهم أي لولا أن تطئوهم .
والوطء : الدوس بالرجل ، ويستعار للإبادة والإهلاك ، وقد جمعهما الحارث بن وعلة الذهلي في قوله :
ووطئتنا وطأ على حنق وطء المقيد نابت الهرم
والإصابة : لحاق ما يصيب .
و ( من ) في قوله منهم للابتداء المجازي الراجع إلى معنى التسبب ، أي فتلحقكم من جرائهم ومن أجلهم معرة كنتم تتقون لحاقها لو كنتم تعلمونهم .
[ ص: 191 ] والمعرة : مصدر ميمي من عره ، إذا دهاه ، أي أصابه بما يكرهه ويشق عليه من ضر أو غرم أو سوء قالة ، فهي هنا تجمع ما يلحقهم إذا ألحقوا أضرارا بالمسلمين من ديات قتلى ، وغرم أضرار ، ومن إثم يلحق القاتلين إذا لم يتثبتوا فيمن يقتلونه ، ومن سوء قالة يقولها المشركون ويشيعونها في القبائل أن محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم ينج أهل دينهم من ضرهم ليكرهوا العرب في الإسلام وأهله .
والباء في بغير علم للملابسة ، أي ملابسين لانتفاء العلم . والمجرور بها متعلق بـ تصيبكم ، أي فتلحقكم من جرائهم مكاره لا تعلمونها حتى تقعوا فيها .
وهذا نفي علم آخر غير العلم المنفي في قوله لم تعلموهم لأن العلم المنفي في قوله لم تعلموهم هو العلم بأنهم مؤمنون بالذي انتفاؤه سبب إهلاك غير المعلومين الذي تسبب عليه لحاق المعرة . والعلم المنفي ثانيا في قوله بغير علم هو العلم بلحاق المعرة من وطأتهم التابع لعدم العلم بإيمان القوم المهلكين وهو العلم الذي انتفاؤه يكون سببا في الإقدام على إهلاكهم .
واللام في قوله : ليدخل الله في رحمته من يشاء للتعليل ، والمعلل واقع لا مفروض ، فهو وجود شرط ( لولا ) الذي تسبب عليه امتناع جوابها فالمعلل هو ربط الجواب بالشرط ، أي لولا وجود رجال مؤمنين ونساء مؤمنات لعذبنا الذين كفروا ، وأن هذا الربط لأجل رحمة الله من يشاء من عباده إذ رحم بهذا الامتناع جيش المسلمين بأن سلمهم من معرة تلحقهم وأن أبقى لهم قوتهم في النفوس والعدة إلى أمد معلوم ، ورحم المؤمنين والمؤمنات بنجاتهم من الإهلاك ، ورحم المشركين بأن استبقاهم لعلهم يسلمون أو يسلم أكثرهم كما حصل بعد فتح مكة ، ورحم من أسلموا منهم بعد ذلك بثواب الآخرة ، فالرحمة هنا شاملة لرحمة الدنيا ورحمة الآخرة .
و من يشاء يعم كل من أراد الله من هذه الحالة رحمته في الدنيا والآخرة أو فيهما معا .
وعبر بـ من يشاء لما فيه من شمول أصناف كثيرة ولما فيه من الإيجاز ولما فيه من الإشارة إلى الحكمة التي اقتضت مشيئة الله رحمة أولئك .
[ ص: 192 ] وجواب ( لولا ) يجوز اعتباره محذوفا دل عليه جواب ( لو ) المعطوفة على ( لولا ) في قوله لو تزيلوا ، ويجوز اعتبار جواب ( لو ) مرتبطا على وجه تشبيه التنازع بين شرطي ( لولا ) و ( لو ) لمرجع الشرطين إلى معنى واحد وهو الامتناع فإن ( لولا ) حرف امتناع لوجود أي تدل على امتناع جوابها لوجود شرطها .
و ( لو ) حرف امتناع لامتناع ، أي تدل على امتناع جوابها لامتناع شرطها ؛ فحكم جوابيهما واحد ، وهو الامتناع ، وإنما يختلف شرطاهما ؛ فشرط ( لو ) منتف وشرط ( لولا ) مثبت .
وضمير تزيلوا عائد إلى ما دل عليه قوله : ولولا رجال مؤمنون إلخ من جمع مختلط فيه المؤمنون والمؤمنات مع المشركين كما دل عليه قوله لم تعلموهم .
والتزيل : مطاوع زيله إذا أبعده عن مكان ، وزيلهم ، أي أبعد بعضهم عن بعض ، أي فرقهم قال تعالى فزيلنا بينهم وهو هنا بمعنى التفرق والتميز من غير مراعاة مطاوعة لفعل فاعل ، لأن أفعال المطاوعة كثيرا ما تطلق لإرادة المبالغة لدلالة زيادة المبنى على زيادة المعنى وذلك أصل من أصول اللغة .
والمعنى : لو تفرق المؤمنون والمؤمنات عن أهل الشرك لسلطنا المسلمين على المشركين فعذبوا الذين كفروا عذاب السيف .
فإسناد التعذيب إلى الله تعالى لأنه يأمر به ويقدر النصر للمسلمين كما قال تعالى : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم في سورة ( براءة ) .
و ( من ) في قوله منهم للتبعيض ، أي لعذبنا الذين كفروا من ذلك الجمع المتفرق المتميز مؤمنهم عن كافرهم ، أي حين يصير الجمع مشركين خلصا وحدهم .
وجملة لو تزيلوا إلى آخرها بيان لجملة ولولا رجال مؤمنون إلى آخرها ، أي لولا وجود رجال مؤمنين إلخ مندمجين في جماعة المشركين غير مفترقين لو افترقوا لعذبنا الكافرين منهم .
وعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم في قوله : لعذبنا الذين كفروا على طريقة الالتفات .