[ ص: 127 ] أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى أعنده علم الغيب فهو يرى .
الفاء لتفريع الاستفهام التعجيبي على قوله ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى إذ كان حال هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى جهلا بأن للإنسان ما سعى ، وقد حصل في وقت نزول الآية المتقدمة أو قبلها حادث أنبأ عن سوء الفهم لمراد الله من عباده مع أنه واضح لمن صرف حق فهمه . ففرع على ذلك كله تعجيب من انحراف أفهامهم .
فالذي تولى وأعطى قليلا هو هنا ليس فريقا مثل الذي عناه قوله فأعرض عن من تولى عن ذكرنا بل هو شخص بعينه . واتفق المفسرون والرواة على أن المراد به هنا معين ، ولعل ذلك وجه التعبير عنه بلفظ ( الذي ) دون كلمة من ؛ لأن ( الذي ) أظهر في الإطلاق على الواحد المعين دون لفظ ( من ) . واختلفوا في تعيين هذا الذي تولى وأعطى قليلا ، فروى الطبري والقرطبي عن مجاهد وابن زيد أن المراد به الوليد بن المغيرة قالوا : كان يجلس إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - ويستمع إلى قراءته وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعظه فقارب أن يسلم فعاتبه رجل من المشركين ( لم يسموه ) وقال : لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار كان ينبغي أن تنصرهم فكيف يفعل بآبائك فقال : إني خشيت عذاب الله ، فقال : أعطني شيئا وأنا أحمل عنك كل عذاب كان عليك ، فأعطاه ، ( ولعل ذلك كان عندهم التزاما يلزم ملتزمه وهم لا يؤمنون بجزاء الآخرة فلعله تفادى من غضب الله في الدنيا ورجع إلى الشرك ) ولما سأله الزيادة بخل عنه وتعاسر وأكدى .
وروى القرطبي عن : أنها نزلت في السدي العاصي بن وائل السهمي ، وعن : نزلت في محمد بن كعب أبي جهل ، وعن الضحاك : نزلت في النضر بن الحارث .
ووقع في أسباب النزول للواحدي والكشاف أنها نزلت في حين صد عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن نفقة في الخير كان ينفقها - أي قبل أن [ ص: 128 ] يسلم عثمان بن عفان - رواه عبد الله بن سعد الثعلبي عن قوم . قال ابن عطية : وذلك باطل وعثمان منزه عن مثله ، أي : عن أن يصغي إلى ابن أبي سرح فيما صده . فأشار قوله تعالى ( الذي تولى ) إلى أنه تولى عن النظر في الإسلام بعد أن قاربه .
وأشار قوله وأعطى قليلا وأكدى إلى ما أعطاه للذي يحمله عنه العذاب .
وليس وصفه ب " تولى " داخلا في التعجيب ولكنه سيق مساق الذم ، ووصف عطاؤه بأنه قليل توطئة لذمه بأنه مع قلة ما أعطاه قد شح به فقطعه . وأشار قوله " وأكدى " إلى بخله وقطعه العطاء يقال : أكدى الذي يحفر ، إذا اعترضته كدية ، أي : حجر لا يستطيع إزالته . وهذه مذمة ثانية بالبخل زيادة على بعد الثبات على الكفر فحصل التعجيب من حال الوليد كله تحقيرا لعقله وأفن رأيه . وقيل المراد بقوله وأعطى قليلا أنه أعطى من تقبله وميله للإسلام قليلا ، وأكدى أي انقطع بعد أن اقترب كما يكدي حافر البئر إذا اعترضته كدية .
والاستفهام في أعنده علم الغيب إنكاري على توهمه أن استئجار أحد ليتحمل عنه عذاب الله ينجيه من العذاب ، أي : ما عنده علم الغيب . وهذا الخبر كناية عن خطئه فيما توهمه .
والجملة استئناف بياني للاستفهام التعجيبي من قوله أفرأيت الذي تولى إلخ .
وتقديم عنده وهو مسند على علم الغيب وهو مسند إليه للاهتمام بهذه العندية العجيب ادعاؤها ، والإشارة إلى بعده عن هذه المنزلة .
وعلم الغيب : معرفة العوالم المغيبة ، أي : العلم الحاصل من أدلة فكأنه شاهد الغيب بقرينة قوله فهو يرى .
وفرع على هذا التعجيب قوله فهو يرى ، أي : فهو يشاهد أمور الغيب ، بحيث عاقد على التعارض في حقوقها . والرؤية في قوله فهو يرى بصرية ومفعولها محذوف ، والتقدير : فهو يرى الغيب .
[ ص: 129 ] والمعنى : أنه آمن نفسه من تبعة التولي عن الإسلام ببذل شيء لمن تحمل عنه تبعة توليه كأنه يعلم الغيب ويشاهد أن ذلك يدفع عنه العقاب ، فقد كان فعله ضغثا على إبالة ؛ لأنه ظن أن التولي جريمة ، وما بذل المال إلا لأنه توهم أن الجرائم تقبل الحمالة في الآخرة .
وتقديم الضمير المسند إليه على فعله المسند دون أن يقول : فيرى ، لإفادة تقوي الحكم نحو : هو يعطي الجزيل . وهذا التقوي بناء على ما أظهر من اليقين بالصفقة التي عاقد عليها وهو أدخل في التعجيب من حاله .