والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم .
يجوز أن يكون عطفا على " الصديقون " عطف المفرد على المفرد فهو عطف على الخبر ، أي : وهم الشهداء . وحكي هذا التأويل عن ، ابن مسعود ومجاهد ، وجماعة . فقيل : معنى كونهم شهداء : أنهم شهداء على الأمم يوم الجزاء ، قال تعالى وزيد بن أسلم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، فالشهادة تكون بمعنى الخبر بما يثبت حقا يجازى عليه بخير أو شر .
[ ص: 398 ] وقيل معناه : أن مؤمني هذه الأمة كشهداء الأمم ، أي : كقتلاهم في سبيل الله وروي عن يرفعه إلى النبيء - صلى الله عليه وسلم - . البراء بن عازب
فتكون جملة عند ربهم لهم أجرهم ونورهم استئنافا بيانيا نشأ عن وصفهم بتينك الصفتين فإن السامع يترقب ما هو نوالهم من هذين الفضلين .
ويجوز أن يكون قوله " والشهداء " مبتدأ . وجملة عند ربهم لهم أجرهم ونورهم خبر عن المبتدأ ، ويكون العطف من عطف الجمل فيوقف على قوله " الصديقون " وحكي هذا التأويل عن ، ابن عباس ومسروق ، والضحاك فيكون انتقالا من وصف مزية الإيمان بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى وصف مزية فريق منهم استأثروا ، وهذا من تتمة قوله بفضيلة الشهادة في سبيل الله وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله إلى قوله والله بما تعملون خبير فإنه لما نوه بوعد المؤمنين المصدقين المعفيين من قوله وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم إلخ فأوفاهم حقهم بقوله والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون أقبل على وعد الشهداء في سبيل الله الذين تضمن ذكرهم قوله وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله الآيات ، فالشهداء إذن هم المقتولون في الجهاد في سبيل الله .
والمعنيان من الشهداء ممكن الجمع بينهما فتحمل الآية على إرادتهما على طريقة استعمال المشترك في معنييه . وقد قررنا في مواضع كثيرة أنه جرى استعمال القرآن عليه .
وضمير " أجرهم " و " نورهم " يعودان إلى الصديقين والشهداء أو إلى الشهداء فقط على اختلاف الوجهين المتقدمين آنفا في العطف .
و " عند ربهم " متعلق بالاستقرار الذي في المجرور المخبر به عن المبتدأ ، والتقدير : لهم أجرهم مستقر عند ربهم ، والعندية مجازية مستعملة في العناية والحظوة .
والظاهر في عود الضمير إلى أن يكون عائدا إلى مذكور في اللفظ بمعناه المذكور فظاهر معنى " أجرهم ونورهم " أنه أجر أولئك المذكورين ، ومعنى إضافة أجر ونور إلى ضميرهم أنه أجر يعرف بهم ونور يعرف بهم .
[ ص: 399 ] وإذ قد كان مقتضى الإضافة أن تفيد تعريف المضاف بنسبته إلى المضاف إليه وكان الأجر والنور غير معلومين للسامع كان في الكلام إبهام يكنى به عن أجر ونور عظيمين فهو كناية عن التنويه بذلك الأجر وذلك النور ، أي : أجر ونور لا يوصفان إلا أجرهم ونورهم ، أي أجرا ونورا لائقين بمقام ، مع ضميمة ما أفادته العندية التي في قوله عند ربهم من معنى الزلفى والعناية بهم المفيد عظيم الأجر والنور .
ويجوز أن يكون ضميرا " أجرهم ونورهم " عائدين إلى لفظي " الصديقون " و " الشهداء " أو إلى لفظ " الشهداء " خاصة على ما تقدم لكن بمعنى آخر غير المعنى الذي حمل عليه آنفا بل بمعنى الصديقين والشهداء ممن كانوا قبلهم من الأمم ، قاله في الكشاف .
ومعنى الصديقين والشهداء حينئذ مغاير للمعنى السابق بالعموم والخصوص على طريقة الاستخدام في الضمير ، وطريقة التشبيه البليغ في حمل الخبر على المبتدأ في قوله لهم أجرهم ونورهم بتقدير : لهم مثل أجرهم ونورهم ، ولا تأويل في إضافة الأجر والنور إلى الضميرين بهذا المحمل فإن تعريف المضاف بين لأنه قد تقرر في علم الناس ما وعد به الصديقون والشهداء من الأمم الماضية قال تعالى في شأنهم وكانوا عليه شهداء وقال فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .
وفائدة التشبيه على هذا الوجه تصوير قوة المشبه وإن كان أقوى من المشبه به لأن للأحوال السالفة من الشهرة والتحقق ما يقرب صورة المشبه عند المخاطب ومنه ما في لفظ الصلاة على النبيء - صلى الله عليه وسلم - من التشبيه بقوله " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم " .