[ ص: 420 ] وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم .
( ثم ) للتراخي الرتبي لأن بعثة رسل الله الذين جاءوا بعد نوح وإبراهيم ومن سبق من ذريتهما أعظم مما كان لدى ذرية إبراهيم قبل إرسال الرسل الذين قفى الله بهم ، إذ أرسلوا إلى أمم كثيرة مثل عاد وثمود وبني إسرائيل وفيهم شريعة عظيمة وهي شريعة التوراة .
والتقفية : إتباع الرسول برسول آخر ، مشتقة من القفا لأنه يأتي بعده فكأنه يمشي عن جهة قفاه ، وقد تقدم في قوله تعالى ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل في سورة البقرة .
والآثار : جمع الأثر ، وهو ما يتركه السائر من مواقع رجليه في الأرض ، قال تعالى فارتدا على آثارهما قصصا .
وضمير الجمع في قوله على آثارهم عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب ، فأما الذين كانت فيهم النبوة فكثيرون ، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل .
و ( على ) للاستعلاء . وأصل ( قفى على أثره ) يدل على قرب ما بين الماشيين ، أي : حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول ، وشاع ذلك حتى صار قولهم : على أثره ، بمعنى : بعده بقليل أو متصلا شأنه بشأن سابقه ، وهذا تعريف للأمة بأن الله أرسل رسلا كثيرين على وجه الإجمال وهو تمهيد للمقصود من ذكر الرسول الأخير الذي جاء قبل الإسلام وهو عيسى عليه السلام .
وفي إعادة الفعل " قفينا " وعدم إعادة " على آثارهم " إشارة إلى بعد المدة بين [ ص: 421 ] آخر رسل إسرائيل وبين عيسى فإن آخر رسل إسرائيل كان يونس بن متى أرسل إلى أهل نينوى أول القرن الثامن قبل المسيح فلذلك لم يكن عيسى مرسلا على آثار من قبله من الرسل .
والإنجيل : هو الوحي الذي أنزله الله على عيسى وكتبه الحواريون في أثناء ذكر سيرته .
والإنجيل : بكسر الهمزة وفتحها معرب تقدم بيانه أول سورة آل عمران . ومعنى جعل الرأفة والرحمة في قلوب الذين اتبعوه أن تعاليم الإنجيل الذي آتاه الله عيسى أمرتهم بالتخلق بالرأفة والرحمة فعملوا بها ، أو أن ارتياضهم بسيرة عيسى عليه السلام أرسخ ذلك في قلوبهم وذلك بجعل الله تعالى لأنه أمرهم به ويسره عليهم .
ذلك أن عيسى بعث لتهذيب نفوس اليهود واقتلاع القسوة من قلوبهم التي تخلقوا بها في أجيال طويلة قال تعالى ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة في سورة البقرة .
والرأفة : الرحمة المتعلقة بدفع الأذى والضر فهي رحمة خاصة ، وتقدمت في قوله تعالى إن الله بالناس لرءوف رحيم في سورة البقرة وفي قوله ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله في سورة النور .
والرحمة : العطف والملاينة ، وتقدمت في أول سورة الفاتحة .
فعطف الرحمة على الرأفة من عطف العام على الخاص لاستيعاب أنواعه بعد أن اهتم ببعضها .
والرهبانية : اسم للحالة التي يكون الراهب متصفا بها في غالب شئون دينه ، فيها ياء النسبة إلى الراهب على غير قياس لأن قياس النسب إلى الراهب الراهبية ، والنون فيها مزيدة للمبالغة في النسبة كما زيدت في قولهم : شعراني ، لكثير الشعر ، ولحياني لعظيم اللحية ، وروحاني ، ونصراني .
[ ص: 422 ] وجعل في الكشاف النون جائية من وصف رهبان مثل نون خشيان من خشي والمبالغة هي هي ، إلا أنها مبالغة في الوصف لا في شدة النسبة .
والهاء هاء تأنيث بتأويل الاسم بالحالة وجعل في الكشاف الهاء للمرة .
وأما اسم الراهب التي نسبت إليه فهو وصف عومل معاملة الاسم ، وهو العابد من النصراني المنقطع للعبادة ، وهو وصف مشتق من الرهب : أي : الخوف لأنه شديد الخوف من غضب الله تعالى أو مخالفة دين الرهبانية . ويلزم هذه الحالة في عرف النصرانية النصارى العزلة عن الناس تجنبا لما يشغل عن العبادة وذلك بسكنى الصوامع والأديرة وترك التزوج تجنبا للشواغل ، وربما أوجبت بعض طوائف الرهبان على الراهب ترك التزوج غلوا في الدين .
وجعل في الكشاف : الرهبانية مشتقة من الرهب ، أي : الخوف من الجبابرة ، أي : الذين لم يؤمنوا بعيسى عليه السلام من اليهود ، وأن الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعيسى فقاتلوهم ثلاث مرات فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل ، فخافوا أن يفتنوا في دينهم فاختاروا الرهبانية وهي ترهبهم في الجبال فارين من الفتنة في الدين اهـ .
وأول ما ظهر اضطهاد أتباع المسيح في بلاد اليهودية ، فلما تفرق أتباع المسيح وأتباعهم في البلدان ناواهم أهل الإشراك والوثنية من الروم حيث حلوا من البلاد التابعة لهم فحدثت فيهم أحوال من التقية هي التي دعاها صاحب الكشاف بمقاتلة الجبابرة .
فالراهب يمتنع من التزوج خيفة أن تشغله زوجه عن عبادته ، ويمتنع من مخالطة الأصحاب خشية أن يلهوه عن العبادة ، ويترك لذائذ المآكل والملابس خشية أن يقع في اكتساب المال الحرام ، وأنهم أرادوا التشبه بعيسى عليه السلام في الزهد في الدنيا وترك التزوج ، فلذلك قال الله تعالى " ابتدعوها " ، أي : أحدثوها فإن الابتداع الإتيان بالبدعة والبدع وهو ما لم يكن معروفا ، أي أحدثوها بعد رسولهم ، فإن البدعة ما كان محدثا بعد صاحب الشريعة .
ونصب " رهبانية " على طريقة الاشتغال . والتقدير : وابتدعوا رهبانية [ ص: 423 ] " وليس معطوفا على رأفة ورحمة " لأن هذه الرهبانية لم تكن مما شرع الله لهم فلا يستقيم كونها مفعولا ل " جعلنا " ، ولأن الرهبانية عمل لا يتعلق بالقلوب وفعل " جعلنا " مقيد بـ في قلوب الذين اتبعوه فتكون مفعولاته مقيدة بذلك ، إلا أن يتأول جعلها في القلوب بجعل حبها كقوله تعالى وأشربوا في قلوبهم العجل .
وعلى اختيار هذا الإعراب مضى المحققون مثل أبي علي الفارسي ، ، والزجاج ، والزمخشري والقرطبي . وجوز أن يكون عطفا على " رأفة ورحمة " . واتهم ابن عطية هذا الإعراب بأنه إعراب المعتزلة فقال : " والمعتزلة تعرب " رهبانية " أنها نصب بإضمار فعل يفسره " ابتدعوها " ويذهبون في ذلك إلى أن الإنسان يخلق أفعاله فيعربون الآية على هذا " اهـ . وليس في هذا الإعراب حجة لهم ولا في إبطاله نفع لمخالفتهم كما علمت . الزمخشري
وإنما عطفت هذه الجملة على جملة وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه لاشتراك مضمون الجملتين في أنه من الفضائل المراد بها رضوان الله .
ومعنى : وابتدعوا لأنفسهم رهبانية ما شرعناها لهم ولكنهم ابتغوا بها رضوان الله فقبلها الله منهم لأن سياق حكاية ذلك عنهم يقتضي الثناء عليهم في أحوالهم .
وضمير الرفع من " ابتدعوها " عائد إلى الذين اتبعوا عيسى . والمعنى : أنهم ابتدعوا العمل بها فلا يلزم أن يكون جميعهم اخترع أسلوب الرهبانية ولكن قد يكون بعضهم سنها وتابعه بقيتهم .
و " الذين اتبعوه " صادق على من أخذوا بالنصرانية كلهم ، وأعظم مراتبهم هم الذين اهتدوا بسيرته اهتداء كاملا وانقطعوا لها وهم القائمون بالعبادة .
والإتيان بالموصول وصلته إشعار بأن جعل الرأفة والرحمة في قلوبهم متسبب عن اتباعهم سيرته وانقطاعهم إليه .
وجملة " ما كتبناها عليهم " مبينة لجملة " ابتدعوها " . وقوله " إلا ابتغاء رضوان الله " [ ص: 424 ] احتراس ، ومجموع الجمل الثلاث استطراد واعتراض .
والاستثناء بقوله إلا ابتغاء رضوان الله معترض بين جملة ما كتبناها عليهم وجملة " فما رعوها " .
وهو استثناء منقطع ، والاستثناء المنقطع يشمله حكم العامل في المستثنى منه وإن لم يشمله لفظ المستثنى منه فإن معنى كونه منقطعا أنه منقطع عن مدلول الاسم الذي قبله ، وليس منقطعا عن عامله ، فالاستثناء يقتضي أن يكون ابتغاء رضوان الله معمولا في المعنى لفعل " كتبناها " فالمعنى : لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله ، أي : أن يبتغوا رضوان الله بكل عمل لا خصوص الرهبانية التي ابتدعوها ، أي أن الله لم يكلفهم بها بعينها .
وقوله إلا ابتغاء رضوان الله يجوز أن يكون نفيا لتكليف الله بها ولو في عموم ما يشملها ، أي : ليست مما يشمله الأمر برضوان الله تعالى وهم ظنوا أنهم يرضون الله بها . ويجوز أن يكون نفيا لبعض أحوال كتابة التكاليف عليهم وهي كتابة الأمر بها بعينها فتكون الرهبانية مما يبتغى به رضوان الله ، أي : كتبوها على أنفسهم تحقيقا لما فيه رضوان الله ، فيكون كقوله تعالى إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - في قصة ذبح البقرة . وهذا هو الظاهر من الآية . " شددوا فشدد الله عليهم
وانتصب " ابتغاء " على المفعول به لفعل كتبناها ، ولك أن تجعله مفعولا لأجله بتقدير فعل محذوف بعد حرف الاستثناء ، أي : لكنهم ابتدعوها لابتغاء رضوان الله .
وفي الآية على أظهر الاحتمالين إشارة إلى مشروعية تحقيق المناط وهو إثبات العلة في آحاد جزئياتها وإثبات القاعدة الشرعية في صورها .
وفيها حجة إلى محمودة ومذمومة بحسب اندراجها تحت نوع من أنواع المشروعية فتعتريها الأحكام الخمسة كما حققه لانقسام البدعة الشهاب القرافي وحذاق العلماء . وأما الذين حاولوا حصرها في الذم فلم يجدوا مصرفا . وقد قال عمر لما جمع الناس على قارئ واحد في قيام رمضان ( نعمت البدعة هذه ) .
[ ص: 425 ] وقد قيل : إنهم ابتدعوا الرهبانية للانقطاع عن جماعات الشرك من اليونان والروم وعن بطش اليهود ، وظاهر أن ذلك طلب لرضوان الله كما حكى الله عن أصحاب الكهف وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف . وفي الحديث ، وعليه فيكون التزوج عارضا اقتضاه الانقطاع عن المدن والجماعات فظنه الذين جاءوا من بعدهم أصلا من أصول الرهبانية . يوشك أن يكون خير مال المسلم غنما يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن
وأما ترك المسيح التزوج فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله ، وليس ترك التزوج من شئون النبوءة فقد كان لجميع الأنبياء أزواج قال تعالى وجعلنا لهم أزواجا وذرية .
وقيل : إن ابتداعهم الرهبانية بأنهم نذروها لله وكان الانقطاع عن اللذائذ وإعنات النفس من وجوه التقرب في بعض بقيت إلى أن أبطلها الإسلام في حديث النذر في الموطأ الشرائع الماضية . وقد مضى في سورة مريم قوله تعالى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا قائما في الشمس صامتا فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل وأن يصوم يومه فقال : مروه فليتكلم وليستظل وليتم ، إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا ولا تنافي بين القولين لأن أسباب الرهبانية قد تعددت باختلاف الأديان .
وقد فرع على قوله " ابتدعوها " و ما كتبناها عليهم وما بعده قوله فما رعوها حق رعايتها أي : فترتب على التزامهم الرهبانية أنهم ، أي الملتزمين للرهبانية ما رعوها حق رعايتها . وظاهر الآية أن جميعهم قصروا تقصيرا متفاوتا ، قصروا في أداء حقها ، وفيه إشعار بأن ما يكتبه الله على العباد من التكاليف لا يشق على الناس العمل به .
والرعي : الحفظ ، أي : ما حفظوها حق حفظها ، واستعير الحفظ لاستيفاء ما تقتضيه ماهية الفعل ، فالرهبانية تحوم حول الإعراض عن اللذائذ الزائلة وإلى التعود على الصبر على ترك المحبوبات لئلا يشغله اللهو بها عن العبادة والنظر في آيات [ ص: 426 ] الله ، فإذا وقع التقصير في التزامها في بعض الأزمان أو التفريط في بعض الأنواع فقد انتفى حق حفظها .
و " حق رعايتها " من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : رعايتها الحق .
وحق الشيء : هو وقوعه على أكمل أحوال نوعه ، وهو منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع .
والمعنى : ما حفظوا شئون الرهبانية حفظا كاملا فمصب النفي هو القيد بوصف " حق رعايتها " .
وهذا الانتفاء له مراتب كثيرة ، والكلام مسوق مساق اللوم على تقصيرهم فيما التزموه أو نذروه ، وذلك تقهقر عن مراتب الكمال وإنما ينبغي للمتقي أن يكون مزدادا من الكمال .
وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - . أحب الدين إلى الله أدومه
وقوله فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم تفريع على جملة وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه إلى آخره وما بينهما استطراد .
والمراد بـ " الذين آمنوا " المتصفون بالإيمان المصطلح عليه بالقرآن ، وهو توحيد الله تعالى والإيمان برسله في كل زمان ، أي : فآتينا الذين آمنوا من الذين اتبعوه أجرهم ، أي الذين لم يخلطوا متابعتهم إياه بما يفسدها مثل الذين اعتقدوا إلهية عيسى عليه السلام أو بنوته لله ، ونحوهم من النصارى الذين أدخلوا في الدين ما هو مناقض لقواعده وهم كثير من النصارى كما قال وكثير منهم فاسقون .
: الكفر وهذا ثناء على المؤمنين الصادقين ممن مضوا من والمراد بالفسق النصارى قبل البعثة المحمدية وبلوغ دعوتها إلى النصارى ، وادعاؤهم أنهم أتباع المسيح باطل لأنهم ما اتبعوه إلا في الصورة والذين أفسدوا إيمانهم بنقض أصوله هم المراد بقوله تعالى وكثير منهم فاسقون ، أي : وكثير من الذين التزموا دينه [ ص: 427 ] خارجون عن الإيمان ، فالمراد بالفسق ما يشمل الكفر وما دونه مثل الذين بدلوا الكتاب واستخفوا بشرائعه كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله .