واللاء يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن .
عطف على قوله ( فطلقوهن لعدتهن ) فإن العدة هنالك أريد بها الأقراء فأشعر ذلك أن تلك المعتدة ممن لها أقراء ، فبقي بيان اعتداد المرأة التي تجاوزت سن المحيض أو التي لم تبلغ سن من تحيض وهي الصغيرة . وكلتاهما يصدق عليها أنها آيسة من المحيض ، أي في ذلك الوقت .
والوقف على قوله ( واللائي لم يحضن ) ، أي هن معطوفات على الآيسين .
واليأس : عدم الأمل . والمأيوس منه في الآية يعلم من السياق من قوله ( فطلقوهن لعدتهن ) ، أي يئسن من المحيض سواء كان اليأس منه بعد تعدده أو كان بعدم ظهوره ، أي لم يكن انقطاعه لمرض أو إرضاع . وهذا السن يختلف تحديده باختلاف الذوات والأقطار كما يختلف سن ابتداء الحيض كذلك . وقد [ ص: 316 ] اختلف في تحديد هذا السن بعدد السنين فقيل : ستون سنة ، وقيل : خمس وخمسون ، وترك الضبط بالسنين أولى وإنما هذا تقريب لإبان اليأس .
والمقصود من الآية بين وهي مخصصة لعموم قوله ( والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ) من سورة البقرة . وقد نزلت سورة الطلاق بعد سورة البقرة .
وقد خفي مفاد الشرط من قوله ( إن ارتبتم ) وما هو متصل به . وجمهور أهل التفسير جعلوا هذا الشرط متصلا بالكلام الذي وقع هو في أثنائه ، وإنه ليس متصلا بقوله ( لا تخرجوهن من بيوتهن ) في أول هذه السورة ، خلافا لشذوذ تأويل بعيد وتشتيت لشمل الكلام ، ثم خفي المراد من هذا الشرط بقوله ( إن ارتبتم ) .
وللعلماء فيه طريقتان : الطريقة الأولى : مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس غير مرجع الارتياب باختلاف المتعلق ، فروى أشهب عن مالك أن الله تعالى لما بين عدة ذوات القروء وذوات الحمل ، أي في سورة البقرة ، وبقيت اليائسة والتي لم تحض ارتاب أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في أمرهما فنزلت هذه الآية . ومثله مروي عن مجاهد ، وروى خبرا الطبري أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اعتداد هاتين اللتين لم تذكرا في سورة البقرة ، فنزلت هذه الآية أبي بن كعب . فجعلوا حرف ( إن ) بمعنى ( إذ ) وأن الارتياب وقع في حكم العدة قبل نزول الآية ، أي إذ ارتبتم في حكم ذلك فبيناه بهذه الآية قال ابن العربي : حديث عن أبي غير صحيح . وأنا أقول : رواه البيهقي في سننه والحاكم في المستدرك وصححه . بسنده عن والطبراني عمرو بن سالم أن أبيا قال : وليس في رواية ما يدل على إسناد الحديث . الطبري
وهو في رواية البيهقي بسنده إلى أبي عثمان عمر بن سالم الأنصاري عن وهو منقطع ، لأن أبي بن كعب أبا عثمان لم يلق وأحسب أنه في [ ص: 317 ] مستدرك أبي بن كعب الحاكم كذلك لأن البيهقي رواه عن الحاكم فلا وجه لقول ابن العربي : هو غير صحيح . فإن رجال سنده ثقات .
وفي أسباب النزول للواحدي عن قتادة أن خلاد بن النعمان وأبيا سألا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فنزلت هذه الآية . وقيل : إن السائل سأل عن عدة الآيسة . معاذ بن جبل
فالريبة على هذه الطريقة تكون مرادا بها ما حصل من التردد في حكم هؤلاء المطلقات فتكون جملة الشرط معترضة بين المبتدأ وهو الموصول وبين خبره وهو جملة ( فعدتهن ثلاثة أشهر ) .
والفاء في ( فعدتهن ) داخلة على جملة الخبر لما في الموصول من معنى الشرط مثل قوله تعالى ( واللذان يأتيانها منكم فآذوهما ) ومثله كثير في الكلام .
والارتياب على هذا قد وقع فيما مضى فتكون ( إن ) مستعملة في معنى اليقين بلا نكتة .
والطريقة الثانية : مشى أصحابها إلى أن مرجع اليأس ومرجع الارتياب واحد ، وهو حالة المطلقة من المحيض ، وهو عن عكرمة وقتادة وابن زيد وبه فسر يحيى بن بكير وإسماعيل بن هاد من المالكية ونسبه ابن لبابة من المالكية إلى . داود الظاهري
وهذا التفسير يمحض أن يكون المراد من الارتياب حصول الريب في حال المرأة .
وعلى هذا فجملة الشرط وجوابه خبر عن ( اللائي يئسن ) ، أي إن ارتبن هن وارتبتم أنتم لأجل ارتيابهن ، فيكون ضمير جمع الذكور المخاطبين تغليبا ويبقى الشرط على شرطيته . والارتياب مستقبل والفاء رابطة للجواب .
[ ص: 318 ] وهذا التفسير يقتضي أن يكون الاعتداد بثلاثة أشهر مشروطا بأن تحصل الريبة في يأسها من المحيض فاصطدم أصحابه بمفهوم الشرط الذي يقتضي أنه إن لم تحصل الريبة في يأسهن أنهن لا يعتددن بذلك أو لا يعتددن أصلا فنسب ابن لبابة من فقهاء المالكية إلى أنه ذهب إلى سقوط العدة عن المرأة التي يوقن أنها يائسة . داود الظاهري
قلت ولا تعرف نسبة هذا إلى داود . فإن : لم يحكه عنه ولا حكاه أحد ممن تعرضوا لاختلاف الفقهاء ، قال ابن حزم ابن لبابة : وهو شذوذ ، وقال ابن لبابة : وأما ابن بكير وإسماعيل بن حماد ، أي من فقهاء المالكية فجعلا المرأة المتيقن يأسها ملحقة بالمرتابة في العدة بطريق القياس يريد أن العدة لها حكمتان براءة الرحم ، وانتظار المراجعة ، وأما الذين لا يعتبرون مفهوم المخالفة فهم في سعة مما لزم الذين يعتبرونه .
وأصحاب هذا الطريق مختلفون في الوجهة وفي محمل الآية بحسبها : فقال عكرمة وابن زيد وقتادة : ليس على المرأة المرتاب في معاودة الحيض إليها عدة أكثر من ثلاثة أشهر تعلقا بظاهر للآية ولعل علة ذلك عندهم أن ثلاثة الأشهر يتبين فيها أمر الحمل فإن لم يظهر حمل بعد انقضائها تمت عدة المرأة ، لأن الحمل بعد سن اليأس نادر فإذا اعترتها ريبة الحمل انتقل النظر إلى حكم الشك في الحمل وتلك مسألة غير التي نزلت في شأنها الآية .
وقال الأكثرون من أهل العلم : إن المرتاب في يأسها تمكث تسعة أشهر ( أي أمد الحمل المعتاد ) فإن لم يظهر بها حمل ابتدأت الاعتداد بثلاثة أشهر فتكمل لها سنة كاملة . وأصل ذلك ما رواه من قضاء سعيد بن المسيب ولم يخالف أحد من الصحابة ، وأخذ به عمر بن الخطاب مالك . وعن مالك في المدونة : تسعة أشهر للريبة والثلاثة الأشهر هي العدة . ولعلهم رأوا أن العدة بعد مضي التسعة الأشهر تعبد لأن ذلك هو الذي في القرآن وأما التسعة الأشهر فأوجبها لعله بالاجتهاد ، وهو تقييد للإطلاق الذي في الآية . عمر بن الخطاب
وقال النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة : تعتد المرتاب في يأسها بالأقراء أي تنتظر الدم إلى أن تبلغ سن من لا يشبه أن تحيض ولو زادت مدة [ ص: 319 ] انتظارها على تسعة أشهر . فإذا بلغت سن اليأس دون ريبة اعتدت بثلاثة أشهر من يومئذ . ونحن نتأول له بأن تقدير الكلام : فعدتهن ثلاثة أشهر ، أي بعد زوال الارتياب كما سنذكره ، وهو مع ذلك يقتضي أن هذه الثلاثة الأشهر بعد مضي تسعة أشهر أو بعد مضي مدة تبلغ بها سن من لا يشبه أن تحيض تعبد ، لأن انتفاء الحمل قد اتضح وانتظار المراجعة قد امتد . إلا أن نعتذر لهم بأن مدة الانتظار لا يتحفز في خلالها المطلق للرأي في أمر المراجعة لأنه في سعة الانتظار فيزاد في المدة لأجل ذلك ، وفي تفسير والشافعي القرطبي : قال عكرمة وقتادة : من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض في أول الشهر مرارا ، وفي الأشهر مرة أي بدون انضباط اهـ . ونقل مثل هذا الكلام عن الطبري الزهري وابن زيد ، فيجب أن يصار إلى هذا الوجه في تفسير الآية . والمرأة إذا قاربت وقت اليأس لا ينقطع عنها الحيض دفعة واحدة بل تبقى عدة أشهر ينتابها الحيض غبا بدون انتظام ثم ينقطع تماما .
وقوله تعالى ( واللائي لم يحضن ) عطف على ( واللائي يئسن ) والتقدير : عدتهن ثلاثة أشهر . ويحسن الوقف على قوله ( فعدتهن ثلاثة أشهر ) .