ناسب بعد ذكر الليل والنهار - وهما من مظاهر الأفق المسمى سماء - أن يتبع ذلك وما سبقه من خلق العالم السفلي بذكر خلق العوالم العلوية .
والبناء : جعل الجاعل أو صنع الصانع بيتا أو قصرا من حجارة وطين أو من أثواب أو من أدم على وجه الأرض ، وهو مصدر بنى ، فبيت المدر مبني ، والخيمة مبنية ، والطراف والقبة من الأدم مبنيان . والبناء يستلزم الإعلاء على الأرض ، فليس الحفر بناء ، ولا نقر الصخور في الجبال بناء . قال : الفرزدق
إن الذي سمك السماء بنى لنا بيتا دعائمه أعز وأطول
فذكر الدعائم وهي من أجزاء الخيمة .
واستعير فعل ( بنينا ) في هذه الآية لمعنى : خلقنا ما هو عال فوق الناس ; لأن تكوينه عاليا يشبه البناء .
ولذلك كان قوله : ( فوقكم ) إيماء إلى وجه الشبه في إطلاق فعل ( بنينا ) ، وليس ذلك تجريدا للاستعارة ; لأن الفوقية لا تختص بالمبنيات ، مع ما فيه من تنبيه النفوس للاعتبار والنظر في تلك السبع الشداد .
والمراد بالسبع الشداد : السماوات ، فهو من ذكر الصفة وحذف الموصوف [ ص: 23 ] للعلم به كقوله تعالى حملناكم في الجارية ، ولذلك جاء الوصف باسم العدد المؤنث ؛ إذ التقدير : سبع سماوات .
فيجوز أن يراد بالسبع الكواكب السبعة المشهورة بين الناس يومئذ وهي : زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والشمس ، والزهرة ، وعطارد ، والقمر . وهذا ترتيبها بحسب ارتفاع بعضها فوق بعض بما دل عليه خسوف بعضها ببعض حين يحول بينه وبين ضوء الشمس التي تكتسب بقية الكواكب النور من شعاع الشمس .
وهذا المحمل هو الأظهر ; لأن العبرة بها أظفر ، لأن المخاطبين لا يرون السماوات السبع ويرون هذه السيارات ويعهدونها دون غيرها من السيارات التي اكتشفها علماء الفلك من بعد ، وهي ستورن ونبتون وأورانوس ، وهي في علم الله تعالى لا محالة ، لقوله : ألا يعلم من خلق وأن الله لا يقول إلا حقا وصدقا ، ويقرب للناس المعاني بقدر أفهامهم رحمة بهم .
فأما الأرض فقد عدت أخيرا في الكواكب السيارة وحذف القمر من الكواكب لتبين أن حركته تابعة لحركة الأرض ، إلا أن هذا لا دخل له في الاستدلال ; لأن الاستدلال وقع بما هو معلوم مسلم يومئذ والكل من صنع الله .
ويجوز أن يراد بالسماوات السبع طبقات علوية يعلمها الله تعالى ، وقد اقتنع الناس منذ القدم بأنها سبع سماوات .
وشداد : جمع شديدة ، وهي الموصوفة بالشدة ، والشدة : القوة .
والمعنى : أنها متينة الخلق قوية الأجرام لا يختل أمرها ولا تنقص على مر الأزمان .