[ ص: 103 ] عبس وتولى   أن جاءه الأعمى  وما يدريك لعله يزكى  أو يذكر فتنفعه الذكرى    . 
افتتاح هذه السورة بفعلين متحملين لضمير لا معاد له في الكلام تشويق لما سيورد بعدهما ، والفعلان يشعران بأن المحكي حادث عظيم ، فأما الضمائر فيبين إبهامها قوله : فأنت له تصدى  وأما الحادث فيتبين من ذكر الأعمى ومن استغنى . 
وهذا الحادث سبب نزول هذه الآية من أولها إلى قوله : ( بررة    ) . وهو ما رواه مالك  في الموطأ مرسلا عن  هشام بن عروة  عن أبيه أنه قال : أنزلت ( عبس وتولى    ) في  ابن أم مكتوم   جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل يقول : يا محمد  استدنني ، وعند النبيء - صلى الله عليه وسلم - رجال من عظماء المشركين ، فجعل النبيء - صلى الله عليه وسلم - يعرض عنه ( أي عن  ابن أم مكتوم    ) ويقبل على الآخر ، ويقول : يا أبا فلان هل ترى بما أقول بأسا ؟ فيقول : لا والدماء ما أرى بما تقول بأسا . فأنزلت عبس وتولى    . 
ورواه الترمذي  مسندا عن عروة  عن عائشة  بقريب من هذا ، وقال الترمذي    : هذا حديث حسن غريب . 
وروى  الطبري  عن  ابن عباس    ( أن  ابن أم مكتوم  جاء يستقرئ النبيء - صلى الله عليه وسلم - آية من القرآن ، ومثله عن قتادة    . 
وقال الواحدي  وغيره : كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - حينئذ يناجي عتبة بن ربيعة  ، وأبا جهل ،  ،  والعباس بن عبد المطلب ،  ، وأبي بن خلف ،  ، وشيبة بن ربيعة ،  ، والوليد بن المغيرة ،  والنبيء - صلى الله عليه وسلم - يقبل على الوليد بن المغيرة  يعرض عليهم الإسلام . ولا خلاف في أن المراد بـ ( الأعمى ) هو  ابن أم مكتوم    . قيل : اسمه عبد الله  وقيل : اسمه عمرو ،  وهو الذي اعتمده في الإصابة ، وهو ابن قيس بن زائدة من بني عامر بن لؤي  من قريش    . 
وأمه عاتكة ،  وكنيت أم مكتوم  لأن ابنها عبد الله  ولد أعمى ، والأعمى يكنى   [ ص: 104 ] عنه بمكتوم . ونسب إلى أمه لأنها أشرف بيتا من بيت أبيه ; لأن بني مخزوم  من أهل بيوتات قريش  فوق بني عامر بن لؤي    . وهذا كما نسب عمرو بن المنذر ملك الحيرة  إلى أمه هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر  آكل المرار زيادة في تشريفه بوارثة الملك من قبل أبيه وأمه . 
ووقع في الكشاف أن أم مكتوم  هي أم أبيه . وقال الطيبي    : إنه وهم ، وأسلم قديما وهاجر إلى المدينة  قبل مقدم النبيء - صلى الله عليه وسلم - إليها ، وتوفي بالقادسية  في خلافة عمر  بعد سنة أربع عشرة أو خمس عشرة . 
وفيه نزلت هذه السورة وآية غير أولي الضرر  من سورة النساء . 
وكان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يحبه ويكرمه وقد استخلفه على المدينة  في خروجه إلى الغزوات ثلاث عشرة مرة ، وكان مؤذن النبيء - صلى الله عليه وسلم    - هو  وبلال بن رباح    . 
والعبوس بضم العين : تقطيب الوجه وإظهار الغضب . ويقال : رجل عبوس بفتح العين ، أي : متقطب ، قال تعالى : إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا    . وعبس من باب ضرب . 
والتولي أصله تحول الذات من مكانها ، ويستعار لعدم اشتغال المرء بكلام يلقى إليه أو جليس يحل عنده ، وهو هنا مستعار لعدم الاشتغال بسؤال سائل ولعدم الإقبال على الزائر . 
وحذف متعلق ( تولى ) لظهور أنه تول عن الذي مجيئه كان سبب التولي . 
وعبر عن  ابن أم مكتوم  ب ( الأعمى ) ترقيقا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - ليكون العتاب ملحوظا فيه أنه لما كان صاحب ضرارة فهو أجدر بالعناية به ; لأن مثله يكون سريعا إلى انكسار خاطره . 
و أن جاءه الأعمى  مجرور بلام الجر محذوف مع ( أن ) وهو حذف مطرد وهو متعلق بفعلي عبس وتولى  على طريقة التنازع . 
والعلم بالحادثة يدل على أن المراد مجيء خاص وأعمى معهود . 
وصيغة الخبر مستعملة في العتاب على الغفلة عن المقصود الذي تضمنه الخبر   [ ص: 105 ] وهو اقتصار النبيء - صلى الله عليه وسلم - على الاعتناء بالحرص على تبليغ الدعوة إلى من يرجو منه قبولها مع الذهول عن التأمل فيما يقارن ذلك من تعليم من يرغب في علم الدين ممن آمن ، ولما كان صدور ذلك من الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لم يشأ الله أن يفاتحه بما يتبادر منه أنه المقصود بالكلام ، فوجهه إليه على أسلوب الغيبة ليكون أول ما يقرع سمعه باعثا على أن يترقب المعني من ضمير الغائب فلا يفاجئه العتاب ، وهذا تلطف من الله برسوله    - صلى الله عليه وسلم - ليقع العتاب في نفسه مدرجا ، وذلك أهون وقعا ، ونظير هذا قوله : عفا الله عنك لم أذنت لهم    . 
قال عياض    : قال  عون بن عبد الله  ، والسمرقندي    : أخبره الله بالعفو قبل أن يخبره بالذنب حتى سكن قلبه اهـ . فكذلك توجيه العتاب إليه مسندا إلى ضمير الغائب ثم جيء بضمائر الغيبة ، فذكر الأعمى تظهر المراد من القصة واتضح المراد من ضمير الغيبة . 
ثم جيء بضمائر الخطاب على طريقة الالتفات . 
ويظهر أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - رجا من ذلك المجلس أن يسلموا فيسلم بإسلامهم جمهور قريش  أو جميعهم ، فكان دخول  ابن أم مكتوم  قطعا لسلك الحديث ، وجعل يقول للنبيء - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله استدنني ، علمني ، أرشدني ، ويناديه ويكثر النداء والإلحاح ، فظهرت الكراهية في وجه الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعله لقطعه عليه كلامه وخشيته أن يفترق النفر المجتمعون ، وفي رواية  الطبري  أنه استقرأ النبيء - صلى الله عليه وسلم - آية من القرآن . 
وجملة ( وما يدريك ) إلخ في موضع الحال . 
وما يدريك مركبة من ( ما ) الاستفهامية وفعل الدراية المقترن بهمزة التعدية ، أي : ما يجعلك داريا أي : عالما . ومثله ( ما أدراك ) كقوله : وما أدراك ما الحاقة    . ومنه وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون  في سورة الأنعام . 
والاستفهام في هذه التراكيب مراد منه التنبيه على مغفول عنه ثم تقع بعده جملة نحو وما أدراك ما القارعة  ونحو قوله هنا وما يدريك لعله يزكى    . 
 [ ص: 106 ] والمعنى : أي شيء يجعلك داريا . وإنما يستعمل مثله لقصد الإجمال ثم التفصيل . 
قال الراغب    : ما ذكر ما أدراك في القرآن إلا وذكر بيانه بعده اهـ . قلت : فقد يبينه تفصيل مثل قوله هنا وما يدريك لعله يزكى  وقوله : وما أدراك ما ليلة القدر  ليلة القدر خير من ألف شهر  وقد يقع بعده ما فيه تهويل نحو وما أدراك ما هيه  ، أي : ما يعلمك حقيقتها وقوله : وما أدراك ما الحاقة  أي : أي شيء أعلمك جواب ما الحاقة . 
وفعل ( يدريك ) معلق عن العمل في مفعوليه لورود حرف ( لعل ) بعده ؛ فإن ( لعل ) من موجبات تعليق أفعال القلوب على ما أثبته أبو علي الفارسي  في التذكرة إلحاقا للترجي بالاستفهام في أنه طلب . فلما علق فعل ( يدريك ) عن العمل صار غير متعد إلى ثلاثة مفاعيل وبقي متعديا إلى مفعول واحد بهمزة التعدية التي فيها ، فصار ما بعده جملة مستأنفة . 
والتذكر : حصول أثر التذكير ، فهو خطور أمر معلوم في الذهن بعد نسيانه ؛ إذ هو مشتق من الذكر بضم الذال . 
والمعنى : انظر فقد يكون تزكيه مرجوا ، أي : إذا أقبلت عليه بالإرشاد زاد الإيمان رسوخا في نفسه وفعل خيرات كثيرة مما ترشده إليه فزاد تزكيه ، فالمراد بـ ( يتزكى ) تزكية زائدة على تزكية الإيمان بالتحلي بفضائل شرائعه ومكارم أخلاقه مما يفيضه هديك عليه ، كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - : لو أنكم تكونون إذا خرجتم من عندي كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة ؛ إذ الهدى الذي يزداد به المؤمنون رفعة وكمالا في درجات الإيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان ، لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة . 
و ( يزكى ) أصله : يتزكى ، قلبت التاء زايا لتقارب مخرجيهما قصدا ليتأتى الإدغام وكذلك فعل في ( يذكر ) من الإدغام . 
والتزكي : مطاوع زكاه ، أي : يحصل أثر التزكية في نفسه . وتقدم في سورة النازعات . 
 [ ص: 107 ] وجملة أو ( يذكر ) عطف على ( يزكى ) ، أي : ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم ، أي : تحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد لما لم يكن يعلمه أو تذكر لما كان في غفلة عنه . 
والذكرى : اسم مصدر التذكير . 
وفي قوله تعالى : فتنفعه الذكرى  اكتفاء عن أن يقول : فينفعه التزكي وتنفعه الذكرى لظهور أن كليهما نفع له . 
والذكرى : هو القرآن لأنه يذكر الناس بما يغفلون عنه ، قال تعالى : وما هو إلا ذكر للعالمين  فقد كان فيما سأل عنه  ابن أم مكتوم  آيات من القرآن . 
وقرأ الجمهور ( فتنفعه ) بالرفع عطفا على ( يذكر ) . وقرأه عاصم  بالنصب في جواب ( لعله يزكى ) . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					