تفريع على الوعد . ومناسبة ذلك ما رواه الترمذي عن والنسائي قال : ابن عباس أبو جهل فقال : يا محمد ، ألم أنهك عن هذا ؟ وتوعده ، فأغلظ له رسول الله ؛ فقال أبو جهل : يا محمد ، بأي شيء تهددني ؟ أما والله إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا ، فأنزل الله تعالى : فليدع ناديه سندع الزبانية يعني أن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند المقام فمر به أبا جهل أراد بقوله ذلك تهديد النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأنه يغري عليه أهل ناديه .
والنادي : اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم ، يقال : ندا القوم ندوا ، إذا اجتمعوا . والندوة بفتح النون الجماعة ، ويقال : ناد وندي ، ولا يطلق هذا الاسم على المكان إلا إذا كان القوم مجتمعين فيه فإذا تفرقوا عنه فليس بناد ، ويقال النادي لمجلس القوم نهارا ؛ فأما مجلسهم في الليل فيسمى المسامر قال تعالى : سامرا تهجرون .
واتخذ قصي لندوة قريش دارا تسمى دار الندوة حول المسجد الحرام ، وجعلها لتشاورهم ومهماتهم وفيها يعقد على الأزواج ، وفيها تتدرع الجواري ، أي : يلبسوهن الدروع ، أي : الأقمصة إعلانا بأنهن قاربن سن البلوغ ، وهذه الدار كانت اشترتها الخيزران زوجة المنصور أبي جعفر وأدخلتها في ساحة المسجد الحرام ، وأدخل بعضها في المسجد الحرام في زيادة وبعضها في زيادة عبد الملك بن مروان وبقيت بقيتها بيتا مستقلا ونزل به أبي جعفر المنصور ، المهدي سنة 160 في مدة خلافة لما زاد في المعتضد بالله العباسي المسجد الحرام جعل مكان دار الندوة مسجدا متصلا بالمسجد الحرام فاستمر كذلك ، ثم هدم وأدخلت مساحته في مساحة المسجد الحرام في الزيادة التي زادها الملك سعود بن عبد العزيز ملك الحجاز ونجد سنة 1379 .
ويطلق النادي على الذين ينتدون فيه وهو معنى قول أبي جهل : إني لأكثر أهل هذا الوادي ناديا ، أي : ناسا يجلسون إلي يريد أنه رئيس يصمد إليه ، وهو المعني هنا .
[ ص: 452 ] وإطلاق النادي على أهله نظير إطلاق القرية على أهلها في قوله تعالى : واسأل القرية ونظير إطلاق المجلس على أهله في قول : ذي الرمة
لهم مجلس صهب السبال أذلة سواسية أحرارها وعبيدها
وإطلاق المقامة على أهلها في قول زهير :
وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل
أي : أصحاب مقامات حسان وجوههم .
وإطلاق المجمع على أهله في قول لبيد :
إنا إذا التقت المجامع لم يزل منا لزاز عظيمة جسامها
الأبيات الأربعة .
ولام الأمر في فليدع ناديه للتعجيز ; لأن أبا جهل هدد النبيء - صلى الله عليه وسلم - بكثرة أنصاره وهم أهل ناديه ، فرد الله عليه بأن أمره بدعوة ناديه ؛ فإنه إن دعاهم ليسطوا على النبيء - صلى الله عليه وسلم - دعا الله ملائكة فأهلكوه ، وهذه الآية معجزة خاصة فإنه تحدى من معجزات القرآن أبا جهل بهذا ، وقد سمع أبو جهل القرآن وسمعه أنصاره فلم يقدم أحد منهم على السطو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أن الكلام يلهب حميته .
وإضافة النادي إلى ضميره لأنه رئيسهم ويجتمعون إليه قالت إعرابية " سيد ناديه ، وثمال عافيه " .
وقوله : سندع الزبانية جواب الأمر التعجيزي ، أي : فإن دعا ناديه دعونا لهم الزبانية ؛ ففعل سندع مجزوم في جواب الأمر ، ولذلك كتب في المصحف بدون واو وحرف الاستقبال لتأكيد الفعل .
والزبانية : بفتح الزاي وتخفيف التحتية جمع زباني بفتح الزاي وبتحتية مشددة ، أو جمع زبنية بكسر الزاي فموحدة ساكنة فنون مكسورة فتحتية مخففة ، أو جمع زبني بكسر فسكون فتحتية مشددة ، وقيل : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، مثل أبابيل وعباديد . وهذا الاسم مشتق من الزبن وهو الدفع بشدة ، يقال : ناقة زبون إذا كانت تركل من يحلبها ، وحرب زبون يدفع بعضها بعضا بتكرر القتال . [ ص: 453 ] فالزبانية الذين يزبنون الناس ، أي : يدفعونهم بشدة . والمراد بهم ملائكة العذاب ويطلق الزبانية على أعوان الشرطة .
و كلا ردع لإبطال ما تضمنه قوله : فليدع ناديه ، أي : وليس بفاعل ، وهذا تأكيد للتحدي والتعجيز .
وكتب ( سندع ) في المصحف بدون واو بعد العين مراعاة لحالة الوصل ؛ لأنها ليست محل وقف ولا فاصلة .