أم هنا منقطعة ، هي بمعنى بل الانتقالية ، لأن هذا الكلام انتقال من غرض إلى آخر ، وهي إذا استعملت منقطعة تؤذن بأن ما بعدها استفهام ، لملازمتها للاستفهام ، حتى قال والمحققون : إنها لا تفارق الدلالة على الاستفهام بعدها ، وقال غيره : ذلك الغالب وقد تفارقه ، واستشهدوا على مفارقتها للاستفهام بشواهد تقبل التأويل . الزمخشري
فقوله أم حسبتم عطف على جملة ولا تهنوا وذلك أنهم لما مسهم القرح فحزنوا واعتراهم الوهن حيث لم يشاهدوا مثل النصر الذي شاهدوه يوم بدر ، بين الله أن لا وجه للوهن للعلل التي تقدمت ، ثم بين لهم هنا : أن دخول الجنة الذي هو مرغوبهم لا يحصل إذا لم يبذلوا نفوسهم في نصر الدين فإذا حسبوا دخول الجنة يحصل دون ذلك ، فقد أخطئوا .
[ ص: 106 ] والاستفهام المقدر بعد أم مستعمل في التغليط والنهي . ولذلك جاء بأم للدلالة على التغليط : أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة دون أن تجاهدوا وتصبروا على عواقب الجهاد .
ومن المفسرين من قدر لأم هنا معادلا محذوفا ، وجعلها متصلة ، فنقل الفخر عن أبي مسلم الأصفهاني أنه قال : عادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا لأنه لما قال ولا تهنوا ولا تحزنوا كأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون أم حسبتم أن تدخلوا الجنة .
وجملة ولما يعلم الله إلخ في موضع الحال ، وهي مصب الإنكار ، أي لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة حين لا يعلم الله الذين جاهدوا .
ولما حرف نفي أخت ( لم ) إلا أنها أشد نفيا من ( لم ) ، لأن ( لم ) لنفي قول القائل فعل فلان ، ولما لنفي قوله قد فعل فلان : قاله كما قال : إن ( لا ) لتنفي يفعل و ( لن ) لنفي سيفعل و ( ما ) لنفي لقد فعل و ( لا ) لنفي هو يفعل . فتدل لما على اتصال النفي بها إلى زمن التكلم ، بخلاف ( لم ) ، ومن هذه الدلالة استفيدت دلالة أخرى وهي أنها تؤذن بأن المنفي بها مترقب الثبوت فيما يستقبل ، لأنها قائمة مقام قولك استمر النفي إلى الآن ، وإلى هذا ذهب سيبويه ، هنا فقال : ولما بمعنى ( لم ) إلا أن فيها ضربا من التوقع وقال في قوله تعالى الزمخشري ولما يدخل الإيمان في قلوبكم في سورة الحجرات : فيه دلالة على أن الأعراب آمنوا فيما بعد .
والقول في علم الله تقدم آنفا في الآية قبل هذه .
وأريد بحالة نفي علم الله بالذين جاهدوا والصابرين الكناية عن حالة نفي الجهاد والصبر عنهم ، لأن الله إذا علم شيئا فذلك المعلوم محقق الوقوع فكما كنى بعلم الله عن التحقق في قوله وليعلم الله الذين آمنوا كنى بنفي العلم عن نفي الوقوع . وشرط الكناية هنا متوفر وهو جواز إرادة المعنى الملزوم مع المعنى اللازم لجواز إرادة انتفاء علم الله بجهادهم مع إرادة انتفاء [ ص: 107 ] جهادهم . ولا يرد ما أورده التفتزاني ، وأجاب عنه بأن الكناية في النفي بنيت على الكناية في الإثبات ، وهو تكلف ، إذ شأن التراكيب استقلالها في مفادها ولوازمها .
وعقب هذا النفي بقوله ويعلم الصابرين معطوفا بواو المعية فهو في معنى المفعول معه ، لتنظيم القيود بعضها مع بعض ، فيصير المعنى : أتحسبون أن تدخلوا الجنة في حال انتفاء علم الله بجهادكم مع انتفاء علمه بصبركم ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يجتمع العلمان . والجهاد يستدعي الصبر ، لأن الصبر هو سبب النجاح في الجهاد ، وجالب الانتصار ، وقد سئل علي عن الشجاعة ، فقال : صبر ساعة . وقال زفر بن الحارث الكلابي ، يعتذر عن انتصار أعدائهم عليهم :
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
وقد تسبب في هزيمة المسلمين يوم أحد ضعف صبر الرماة ، وخفتهم إلى الغنيمة ، وفي الجهاد يتطلب صبر المغلوب على الغالب حتى لا يهن ولا يستسلم .