يجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا .
و ( من ) تبعيضية ، وهي خبر لمبتدإ محذوف دلت عليه صفته وهي جملة " يحرفون " . والتقدير : قوم يحرفون الكلم .
وحذف المبتدإ في مثل هذا شائع في كلام العرب اجتزاء بالصفة عن الموصوف ، وذلك إذا كان المبتدأ موصوفا بجملة أو ظرف ، وكان بعض اسم مجرور بحرف " من " ، وذلك الاسم مقدم على المبتدإ . ومن كلمات العرب المأثورة قولهم : منا ظعن ومنا أقام . أي منا فريق ظعن ومنا فريق أقام . ومنه قول : ذي الرمة
فظلوا ومنهم دمعه غالب له وآخر يذري دمعة العين بالهمل
أي ومنهم فريق ، بدليل قوله في العطف : وآخر . وقول تميم بن مقبل :وما الدهر إلا تارتان فمنـهـمـا أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
ويجوز أن يكون من الذين هادوا صفة للذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، وتكون ( من ) بيانية أي هم الذين هادوا ، فتكون جملة يحرفون حالا من قوله : الذين هادوا . وعلى الوجهين فقد أثبتت لهم أوصاف التحريف والضلالة ومحبة ضلال المسلمين .
[ ص: 75 ] والتحريف : الميل بالشيء إلى الحرف وهو جانب الشيء وحافته ، وسيأتي عند قوله تعالى : يحرفون الكلم عن مواضعه في سورة المائدة ، وهو هنا مستعمل في الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل ، كما يقال : تنكب عن الصراط ، وعن الطريق ، إذا أخطأ الصواب وصار إلى سوء الفهم أو التضليل ، فهو على هذا تحريف مراد الله في التوراة إلى تأويلات باطلة ، كما يفعل أهل الأهواء في تحريف معاني القرآن بالتأويلات الفاسدة . ويجوز أن يكون التحريف مشتقا من الحرف وهو الكلمة والكتابة ، فيكون مرادا به تغيير كلمات التوراة وتبديلها بكلمات أخرى لتوافق أهواء أهل الشهوات في تأييد ما هم عليه من فاسد الأعمال . والظاهر أن كلا الأمرين قد ارتكبه اليهود في كتابهم . وما ينقل عن أن التحريف فساد التأويل ولا يعمد قوم على تغيير كتابهم ، ناظر إلى غالب أحوالهم ، فعلى الاحتمال الأول يكون استعمال " عن " في قوله : ابن عباس عن مواضعه مجازا ، ولا مجاوزة ولا مواضع ، وعلى الثاني يكون حقيقة إذ التحريف حينئذ نقل وإزالة .
وقوله " ويقولون " عطف على يحرفون ذكر سوء أفعالهم ، وسوء أقوالهم التي يواجهون بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - : يقولون سمعنا دعوتك وعصيناك ، وذلك إظهار لتمسكهم بدينهم ليزول طمع الرسول في إيمانهم ، ولذلك لم يروا في قولهم هذا أذى للرسول فأعقبوه بقولهم له واسمع غير مسمع إظهار للتأدب معه .
ومعنى واسمع غير مسمع أنهم يقولون للرسول - صلى الله عليه وسلم - عند مراجعته في أمر الإسلام : اسمع منا ، ويعقبون ذلك بقولهم : غير مسمع يوهمون أنهم قصدوا الظاهر المتبادر من قولهم : غير مسمع ، أي غير مأمور بأن تسمع ، في معنى قول العرب : افعل غير مأمور . وقيل معناه : غير مسمع مكروها ، فلعل العرب كانوا يقولون : أسمعه بمعنى سبه . والحاصل أن هذه الكلمة كانت معروفة الإطلاق بين العرب في معنى الكرامة والتلطف . إطلاقا متعارفا ، ولكنهم لما قالوها للرسول أرادوا بها معنى آخر انتحلوه لها من شيء يسمح به تركيبها الوضعي ، أي أن لا يسمع صوتا من متكلم . بأن يصير أصم ، أو [ ص: 76 ] أن لا يستجاب دعاؤه . والذي دل على أنهم أرادوا ذلك قوله بعد ولو أنهم قالوا إلى قوله : واسمع وانظرنا فأزال لهم كلمة غير مسمع . وقصدهم من إيراد كلام ذي وجهين أن يرضوا الرسول والمؤمنين ويرضوا أنفسهم بسوء نيتهم مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويرضوا قومهم ، فلا يجدوا عليهم حجة .
وقولهم راعنا أتوا بلفظ ظاهره طلب المراعاة ، أي الرفق ، والمراعاة مفاعلة مستعملة في المبالغة في الرعي على وجه الكناية الشائعة التي ساوت الأصل ، ذلك لأن الرعي من لوازمه الرفق بالمرعي ، وطلب الخصب له ، ودفع العادية عنه . وهم يريدون بـ راعنا كلمة في العبرانية تدل على ما تدل عليه كلمة الرعونة في العربية ، وقد روي أنها كلمة " راعونا " وأن معناها الرعونة فلعلهم كانوا يأتون بها ، يوهمون أنهم يعظمون النبيء - صلى الله عليه وسلم - بضمير الجماعة ، ويدل لذلك أن الله نهى المسلمين عن متابعتهم إياهم في ذلك اغترارا فقال في سورة البقرة يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا .
واللي أصله الانعطاف والانثناء ، ومنه ولا تلوون على أحد ، وهو يحتمل الحقيقة في كلتا الكلمتين : اللي ، والألسنة ، أي أنهم يثنون ألسنتهم ليكون الكلام مشبها لغتين بأن يشبعوا حركات ، أو يقصروا مشبعات ، أو يفخموا مرققا ، أو يرققوا مفخما ، ليعطي اللفظ في السمع صورة تشبه صورة كلمة أخرى ، فإنه قد تخرج كلمة من زنة إلى زنة ، ومن لغة إلى لغة بمثل هذا . ويحتمل أن يراد بلفظ اللي مجازه ، وبالألسنة مجازه : فاللي بمعنى تغيير الكلمة ، والألسنة مجاز على الكلام ، أي يأتون في كلامهم بما هو غير متمحض لمعنى الخير .
وانتصب ليا على المفعول المطلق لـ " يقولون " لأن اللي كيفية من كيفيات القول .
وانتصب وطعنا في الدين على المفعول لأجله ، فهو من عطف بعض المفاعيل على بعض آخر ، ولا ضير فيه ، ولك أن تجعلهما معا مفعولين مطلقين أو مفعولين لأجلهما ، وإنما كان قولهم وطعنا في الدين ، لأنهم أضمروا في كلامهم قصدا خبيثا فكانوا يقولون لإخوانهم ، ومن يليهم من حديثي العهد بالإيمان : لو كان محمد رسولا لعلم ما أردنا بقولنا ، فلذلك فضحهم الله بهذه الآية ونظائرها .
[ ص: 77 ] وقوله : ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا أي لو قالوا ما هو قبول للإسلام لكان خيرا . وقول سمعنا وأطعنا يشبه أنه مما جرى مجرى المثل بقول من أمر بشيء وامتثله : سمع وطاعة ، أي شأني سمع وطاعة ، وهو مما التزم فيه حذف المبتدإ لأنه جرى مجرى المثل ، وسيجيء في سورة النور قوله تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا .
وقوله ( وأقوم ) تفضيل مشتق من القيام الذي هو بمعنى الوضوح والظهور ، كقولهم : قام الدليل على كذا ، وقامت حجة فلان . وإنما كان أقوم لأنه دال على معنى لا احتمال فيه ، بخلاف قولهم .
والاستدراك في قوله : ولكن لعنهم الله بكفرهم ناشئ عن قوله : لكان خيرا لهم ، أي ولكن أثر اللعنة حاق بهم فحرموا ما هو خير فلا ترشح نفوسهم إلا بآثار ما هو كمين فيها من فعل سيئ وقول بذاء لا يستطيعون صرف أنفسهم عن ذلك .
ومعنى فلا يؤمنون إلا قليلا أنهم لا يؤمنون أبدا فهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، وأطلق القلة على العدم ، وفسر به قول تأبط شرا :
قليل التشكي للمـهـم يصـيبـه كثير الهوى شتى النوى والمسالك