أقبل على خطاب أهل الكتاب الذين أريد بهم اليهود بعد أن ذكر من عجائب ضلالهم ، وإقامة الحجة عليهم ، ما فيه وازع لهم لو كان بهم وزع ، وكذلك شأن القرآن أن لا يفلت فرصة تعن من فرص الموعظة والهدى إلا انتهزها ، وكذلك شأن الناصحين من الحكماء والخطباء أن يتوسموا أحوال تأثر نفوس المخاطبين ومظان ارعوائها عن الباطل ، وتبصرها في الحق ، فينجدوها حينئذ بقوارع الموعظة والإرشاد ، كما أشار إليه الحريري في المقامة 11 إذ قال : فلما ألحدوا الميت ، وفات قول ليت ، أشرف شيخ من رباوة ، متأبطا لهراوة ، فقال : لمثل هذا فليعمل العاملون إلخ . لذلك جيء بقوله : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم الآية عقب ما تقدم .
وهذا موجب اختلاف الصلة هنا عن الصلة في قوله : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب لأن ذلك جاء في مقام التعجيب والتوبيخ فناسبته صلة مؤذنة بتهوين شأن علمهم بما أوتوه من الكتاب ، وما هنا جاء في مقام الترغيب فناسبته صلة تؤذن بأنهم شرفوا بإيتاء التوراة لتثير هممهم للاتسام بميسم الراسخين في جريان أعمالهم على وفق ما يناسب ذلك ، وليس بين الصلتين اختلاف في الواقع لأنهم أوتوا الكتاب كله حقيقة باعتبار كونه بين أيديهم ، وأوتوا نصيبا منه باعتبار جريان أعمالهم على خلاف ما جاء به كتابهم ، فالذي لم يعملوا به منه كأنهم لم يؤتوه .
وجيء بالصلتين في قوله : بما نزلنا وقوله ( لما معكم ) دون الاسمين العلمين ، وهما : القرآن والتوراة : لما في قوله : بما نزلنا من التذكير بعظم شأن القرآن أنه منزل بإنزال الله ، ولما في قوله ( لما معكم ) من التعريض بهم في أن التوراة كتاب مستصحب عندهم لا يعلمون منه حق علمه ولا يعملون بما فيه ، على حد قوله : كمثل الحمار يحمل أسفارا .
[ ص: 79 ] وقوله : من قبل أن نطمس وجوها تهديد أو وعيد ، ومعنى من قبل أن نطمس أي آمنوا في زمن يبتدئ من قبل الطمس ، أي من قبل زمن الطمس على الوجوه ، وهذا تهديد بأن يحل بهم أمر عظيم ، وهو يحتمل الحمل على حقيقة الطمس بأن يسلط الله عليهم ما يفسد به محياهم فإن قدرة الله صالحة لذلك ، ويحتمل أن يكون الطمس مجازا على إزالة ما به كمال الإنسان من استقامة المدارك فإن الوجوه مجامع الحواس .
والتهديد لا يقتضي وقوع المهدد به ، وفي الحديث . أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله وجهه وجه حمار
وأصل الطمس إزالة الآثار الماثلة . قال كعب :
عرضتها طامس الأعلام مجهول
وقد يطلق الطمس مجازا على إبطال خصائص الشيء المألوفة منه . ومنه طمس القلوب أي إبطال آثار التميز والمعرفة منها .وقوله : فنردها على أدبارها عطف لمجرد التعقيب لا للتسبب ; أي من قبل أن يحصل الأمران : الطمس والرد على الأدبار ، أي تنكيس الرؤوس إلى الوراء . وإن كان الطمس هنا مجازا وهو الظاهر ، فهو وعيد بزوال وجاهة اليهود في بلاد العرب ، ورميهم بالمذلة بعد أن كانوا هناك أعزة ذوي مال وعدة ، فقد كان منهم السموأل قبل البعثة ، ومنهم أبو رافع تاجر أهل الحجاز ، ومنهم كعب بن الأشرف ، سيد جهته في عصر الهجرة .
والرد على الأدبار على هذا الوجه : يحتمل أن يكون مجازا بمعنى القهقرى ، أي إصارتهم إلى بئس المصير ; ويحتمل أن يكون حقيقة وهو ردهم من حيث أتوا ، أي إجلاؤهم من بلاد العرب إلى الشام .
والفاء على هذا الوجه للتعقيب والتسبب معا ، والكلام وعيد ، والوعيد حاصل ، فقد رماهم الله بالذل ، ثم أجلاهم النبيء - صلى الله عليه وسلم - وأجلاهم إلى أذرعات . عمر بن الخطاب
[ ص: 80 ] وقوله : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت أريد باللعن هنا الخزي ، فهو غير الطمس ، فإن كان الطمس مرادا به المسخ فاللعن مراد به الذل ، وإن كان الطمس مرادا به الذل فاللعن مراد به المسخ .
و أصحاب السبت هم الذين في قوله : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين . وقد تقدم في سورة البقرة .